المدن - متى سيقضي علينا الذكاء الاصطناعي؟
لكن الأمر يتكرّر كثيراً حتى أصبح أقرب إلى النبوءة المحققة، أن يتحوّل الخيال العلمي في الروايات والأفلام إلى واقع لاحقاً. يتسلّل خيال الماضي إلى حياة الحاضر. الأمثلة كثيرة: طائرات من دون طيار (Drones) ظهرت أولاً في سلسلة أفلام "The Terminator"، تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد ظهرت أولاً في فيلم "دارك مان"، أفلام "ستار تريك" تنبّأت بالكثير من الاكتشافات الفضائية الحالية، لكن يكفيها أنها ألهمت مارتن كوبر، المهندس الأميركي في شركة موتورولا، بفكرة هاتف الموبايل في أوائل السبعينيات. يتكرّر الأمر، لأنه إذا دقّق المرء جيداً في مسيرة التطوّر الإنساني، يكتشف أن معظم النظريات والاختراعات البشرية بدأت بفرضية تنبثق في الخيال قبل أن تُثبتها التجربة ويؤكدها المنهج العلمي. نظرية النسبية الخاصة تشكلّت في خيال أينشتاين قبل أن تُثبت لاحقاً، لكن هذا موضوع آخر لا نريد الخوض فيه الآن.لنعد الآن إلى مسيرة الذكاء الاصطناعي. بدأت أولى بحوث الذكاء الاصطناعي في منتصف الخمسينيات. كانت النتائج في البداية متواضعة، لكن النتائج المبهرة لهذه الأبحاث ظهرت بشكل متسارع خلال السنوات العشرين الأخرة. الآن، أصبح ما يُسمّى بـ"الذكاء الاصطناعي المحدود" وخوارزمياته، جزءاً جوهرياً من واقعنا وحياتنا. هذا الذكاء موجود في موبايلاتنا الحديثة. شركة أمازون افتتحتْ في سان فرانسيسكو أول سوبر ماركت يستخدم الذكاء الاصطناعي بشكل كامل لخدمة الزبائن ويستغني عن البشر تماماً. في بكين، سلسلة مطاعم يديرها الذكاء الاصطناعي بشكل كامل، من المطبخ إلى روبوتات توصل الطعام. الذكاء الاصطناعي دخل عالم الطب، خوارزمياته تقرأ الصور الشعاعية بدقة تفوق دقة أطباء الأشعة الاختصاصيين. في بريطانيا برنامج ذكاء اصطناعي يمكنه التنبّؤ، قبل أن يستطيع أيّ طبيب مهما كان ماهراً، بالذين سيُصابون ببعض الأمراض العصبية. الذكاء الاصطناعي المحدود يقرّر الآن في الكثير من الدول مَن يستطيع الحصول على قروض مالية، ومن يجب قبوله في العمل، ومن يمكنه الحصول على تأمين صحي. يغزو الذكاء الاصطناعي حياتنا بالتدريج. المتحمسون له يتوقعون أن توكل مهنة المحاماة في المستقبل إلى آلات ذكية تحفظ الأدلة وتستخلص النتائج وتُرافع عن المظلومين. السيارات الحديثة أصبحت مسلّحة بالكثير من الذكاء الاصطناعي، وسيُمكننا قريباً الاسترخاء التام في مقاعدنا بينما توصلنا سياراتنا إلى مواعيدنا.
جميل. الذكاء االاصطناعي سيسهّل حياتنا (لا جدال في ذلك) وسيوفّر الكثير من الطاقة والوقت البشريَين، وهذا ذو قيمة بالتأكيد. جامعة "ستانفورد" استثمرت حتى الآن ستة مليارات دولار في تطوير الذكاء الاصطناعي، عدا الاستثمارات الضخمة للدول. لماذا إذاً المخاوف الكبيرة إلى حدّ العداوة التي يواجهها الذكاء الاصطناعي، ومن أشخاص لا يمكن وسمهم أبداً بالرجعية التقنية. مثلاً، لنقرأ ماذا يقول ستيفن هوكينغ، أشهر علماء الكونيات والفيزياء النظرية: "أعتقد أن الوصول إلى الذكاء الاصطناعي العام قد يمهّد الطريق إلى فناء الجنس البشري!". نبوءة مخيفة لا يمكن تجاهلها ممّن يمتلك الحدس العملي والإنساني لستيفن هوكينغ. إيلون ماسك، المهندس والمخترع ورئيس شركتي "تيسلا" و"سبايس إكس" حذّر بأن "الذكاء الاصطناعي أخطر من الأسلحة النووية"، والتقى مع العديد من السياسيين لإقناعهم بأن "الذكاء الاصطناعي يمثّل تهديداً وجودياً للحضارة البشرية". حقاً! وتطول لائحة المحذّرين: عالم الفيزياء النظرية والمستقبليات ميتشيو كابو، عالم الفيزياء ماكس تيغمارك، أستاذ العلوم السياسية بيتر هاس، المفكّر وعالم الأعصاب سام هاريس. ما الذي يخيف كل هؤلاء؟
ربّما يصلح هنا أن نعرض ما كتبه سام هاريس، المفكّر وعالم الأعصاب الأميركي، بهذا الخصوص، لدقّته ووضوحه، ولأنه يختصر معظم المخاوف والنقد الموجه صوب الذكاء الاصطناعي. قبل ذلك، لا بدّ من توضيح نقطة مهمة. في المقاطع السابقة، تكلّمتُ عن الذكاء الاصطناعي المحدود والذكاء الاصطناعي العام. فالجميع متفق على الفوائد الهائلة للذكاء الاصطناعي المحدود، أي تلك الخوارزميات الذكية والآلات محدودة التطبيق التي تختصر الوقت وتساعدنا في حياتنا العملية (الموبايل، أجهزة البحث على الأنترنت، الخ…). الخوف هو من الآلات الشاملة الذكية (مثل الروبوتات) التي يمكن لذكائها الاصطناعي أن يرتقي إلى حدّ امتلاك وعي ذاتي بوجودها المنفصل عن خالقها (أيّ نحن) ووعيٍ بالعالم المحيط بها. روبوتات تصل إلى درجة من التعقيد بحيث تتفاعل بشكل ديناميكي مع البيئة المحيطة بها لتطوير نفسها من دون تدخّل إنساني. سنعود إلى مسألة الوعي تلك لاحقاً.بدايةً، يرى سام هاريس أن الذكاء في جزء كبير منه هو عملية "معالجة معلومات Information Processing". بهذا المعنى، يضعنا الذكاء الاصطناعي في جيبه. القول هنا بأن الذكاء الاصطناعي أسرع منّا، تبسيط للفرق الهائل بيننا. حسب آخر التقديرات، العمل الذي يمكن أن تنجزه آلة ذكية في أسبوع، يُعادل ما ينجزه دماغنا البيولوجي الكيميائي في عشرة آلاف سنة. النقطة الثانية أن دافعَنا لتطوير الذكاء الاصطناعي دافع لا يمكن إيقافه ولا يمكن مقاومته. منذ الثورة العلمية في القرن السادس العشر، ثم الصناعية، يتسارع تطوّرُ التقنية بشكل جنوني، يقف خلفه دافع إنساني عميق ودارويني بالارتقاء. هذا التطوّر سيستمر بشكل حتمي، وسيؤدي بالتأكيد إلى الانتقال من ذكاء اصطناعي محدود إلى ذكاء اصطناعي عام. لكن ما هي نقطة النهاية؟ إذا ظلّت التقنية والمعرفة تتحسّن، وحصل انفجار في الذكاء كما توقّع عالم الرياضيات إرفين غود، هل هناك سقف يمكن أن يقف عنده الذكاء الاصطناعي؟ ومتى تجاوزَنا الذكاء الاصطناعي بمسافة كبيرة (كما سيحصل بالتأكيد)، كيف سينظر هذا الذكاء إلينا، كيف سيُعاملنا، وكيف ستكون علاقته معنا؟الذين يرون في الذكاء الاصطناعي نصيراً وديعاً لا يمكن أن ينقلب ضدّ صنّاعه، أي ضدنا، يجادلون بأن الذكاء الاصطناعي سيبقى دائماً خاضعاً للبرمجة التي نضعها فيه، وأن حصول الوعي الذاتي لدى الآلات الذكية غير ممكن... لكن البشرية حتى الآن لم تحسم ماهية الوعي وكيفية تشكّله لدى الإنسان، فكيف يمكن الجزم بأن الوعي مستحيل حصوله لدى الروبوتات؟ دماغنا مؤلّف من 100 مليار خلية عصبيّة، وهذه الخلايا العصبية بترابطها مع بعضها البعض، أنتجتْ ما يُسمّى الآن بالوعي الإنساني الذي يحلُم ويؤلّف الشعر ويغزو الفضاء ويخترع ويتعلّم. تصميم الروبوتات الحالية الذكية، يحتوي أيضاً على شبكات افتراضية تُشكّلها خلايا عصبية افتراضية (Virtual Neurons). فما المانع، مع تطور هذه الشبكات والروبوتات، أن يتشكّل وعي ذاتي من ترابط هذه الخلايا العصبية الافتراضية؟ يسأل سام هاريس. ومتى تشكل الوعي الروبوتي، ستبدأ الروبوتات بالتعلّم من التجربة وتطوير نفسها ذاتياً. في النهاية الذرّات المادية التي تشكل خلايانا هي أساس وعينا وذكائنا. هذه الذرّات هي نفسها التي يتشكّل منها جسد ودماغ الروبوت.يجادل أيضاً الذين يرون في روبوتات المستقبل حليفاً وشريكاً، بأنّ قيم وأخلاق الروبوت ستكون امتداداً لقيمنا وأخلاقنا، أو بالأحرى سنحرص على أن نزرع في الروبوت قيم الخير ونُبعد عنه (أو عن برامجه وخوارزمياته) قيم الشرّ. لكن هل قيمُنا نفسها ثابتة مع الزمن؟ ثم ماذا يعني أن تكون قيمُنا هي المعيار؟ ماذا عن الشرّ المتأصل الذي يصعب اقتلاعه في نسيج الحياة، لأنه جزء من لعبة الحياة نفسها منذ نشأتها؟ ثم الشر نسبي، أليس كذلك؟ مثلاً، سيكون الفرق بين ذكاء روبوتات المستقبل وذكائنا، كالفرق بيننا الآن وبين قطيع من النمل. نحن لا نكره النمل حقاً، لكن إذا أصبح وجوده مزعجاً بالنسبة إلينا، لا نتردّد في التخلّص منه، ولا نرى في ذلك عملاً شريراً. ماذا إذا أصبح وجودنا البيولوجي، الغبي نسبياً، في المستقبل، مُزعِجاً للروبوتات؟لدينا الآن طائرات مقاتلة من دون طيار، يُسيّرها الذكاء الاصطناعي. قرار القتل لبعض هذه الطائرات يتخذه الذكاء الاصطناعي. التحذير والسؤال الأهم الذي يطرحه هاريس وأمثاله، هو هل يمكننا حقّا التحكّم في مصير الذكاء الاصطناعي ومآلاته. وما الذي علينا فعله الآن كي نستمر في تطوير الذكاء الاصطناعي بطريقة آمنة؟ متى بدأتْ الآلات الذكية تكتسب وعياً خاصاً بها وتدرك أنها مختلفة عنّا وأذكى منّا بكثير، سنكون وصلنا إلى نقطة اللاعودة. هذه النقطة بحسب هاريس تبعد عنّا بين 50 و100 سنة... فقط. بعد ذلك، سيكون الوقت قد تأخّر كثيراً.