الغناء الهادف عبادة في الأعياد والأفراح
ذهب جماهير الفقهاء إلى جواز الغناء المصحوب بالدف، في جميع الأفراح والولائم والمناسبات، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية إذ يقول في مجموع الفتاوى29/552-553: وأما غناء الرجال للرجال، فلم يبلغنا أنه كان في عهد الصحابة، يبقى غناء النساء للنساء في العرس، وأما غناء الحرائر للرجال بالدف، فمشروع في الأفراح كحديث النادرة وغناها مع ذلك، ولكن نصب مغنية للنساء والرجال، هذا منكر بكل حال، بخلاف من ليست صنعتها، وكذلك أخذ العوض عليه والله أعلم.هـ
ونتحفظ على الجملة الأخيرة، لأنه لا دليل عليها من الكتاب والسنة، بل في السنة وحياة الصحابة ما يثبت العكس، ويهمنا من كلامه قوله رحمه الله: (وأما غناء الحرائر للرجال بالدف، فمشروع في الأفراح كحديث النادرة وغناها مع ذلك)، فإنه صفعة للمتنطعين.
إن الغناء ليس مباحا في المناسبات كالعيد والعرس فقط، بل هو سنة مستحبة، أي أنه عمل صالح إذا كان هادفا خاليا من المنكرات.
فكما جعل الله التوسع في الأكل والشرب عبادة يوم العيدين، ترويحا عن النفوس، وإكراما للأهل والضيوف، فإنه جعل الغناء الطيب عبادة في العيد والعرس وسائر الولائم والأفراح الفطرية في الإنسان، كالختان والعقيقة وقدوم الغائب، ورجوع المفقود، والنصر على العدو.
ومن بدع أدعياء التسنن أنهم يحيون الولائم بالمواعظ والدروس وتلاوة القرآن، فيتحول الفرح لديهم إلى جنازة ومأثم.
ونتحداهم أن يثبتوا شيئا من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأفراح الصحابة زمن النبوة كانت مناسبة للسرور والتنشيط والترويح بعد العبادة والجهاد.
ومن باب التحديث بالنعمة، فالمقال يشتمل على أحاديث وآثار أقسم بالله أن أكثر من تسعين بالمائة من العلماء الكبار لم يسمعوا بها، وأن 99.99 من طلبة العلم والباحثين لم يروها حتى في الحلم، لأنها لا توجد في الكتب المخصصة لموضوع الغناء، ولأن المحدثين لم يرووها في مصنفاتهم لتشدد بعضهم أو خوفهم من الإرهاب الفقهي.
وهذه أدلتنا على استحباب الغناء في الأعياد والأفراح، ولا نأبه لأي كان، فشريعتنا هي السنة والقرآن، لا مزاج فلان أو علان:
الدليل الأول:
عن أم المؤمنين عائشة قالت: كان في حجري جارية من الأنصار فزوجتها، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرسها، فلم يسمع غناء ولا لعبا فقال: يا عائشة، هل غنيتم عليها؟ أو: لا تغنون عليها! ثم قال: إن هذا الحي من الأنصار يحبون الغناء.
في رواية: عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما فعلت فلانة؟ ليتيمة كانت عندها، فقلت: أهديناها إلى زوجها. قال: فهل بعثتم معها بجارية تضرب بالدف وتغني. قالت: تقول ماذا؟ قال: تقول: أتيناكم أتيناكـــم/ فــحيونا نحييكم/ لولا الذهب الأحمر/ مـا حلت بواديكم/ ولولا الحبة السمراء/ ما سمنت عذاريكم.
أخرجه أحمد والبخاري، وابن حبان، والحاكم، وابن حبان، والطبراني.
وروى مسدد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوَّجَت امْرَأَةً كَانَتْ عندها، فأهدوها إِلَى زَوْجِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ألا أرسلتم معها من تقول: أَتَيْنَاكُمْ أَتَيْنَاكُمْ / فَحَيَّانَا وَحَيَّاكُمْ، فَإِنَّ الْأَنْصَارَ قَوْمُ غَزَلٍ.
أورده البوصيري في إتحاف الخيرة (4/ 49) وحسنه.
وفي الإصابة لابن حجر: أرنب المدنية المغنية، روينا في الجزء الثالث من أمالي المحاملي، رواية الأصبهانيين، من طريق ابن جريج أخبرني أبو الأصبع أن جميلة المغنية أخبرته، أنها سألت جابر بن عبد الله عن الغناء فقال: نكح بعض الأنصار بعض أهل عائشة، فأهدتها إلى قباء، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أهديت عروسك؟ قالت: نعم. قال: فأرسلت معها بغناء، فإن الأنصار يحبونه! قالت: لا. قال: فأدركيها بأرنب، امرأة كانت تغني بالمدينة.
قلت: في الرواية الأولى، نرى أن النبي يجيز لعائشة ومن معها من النساء البالغات أن يغنين قبل أن يخرجن بالعروس، وفي الثانية نجده يستنكر عدم إهداء العروس إلى زوجها مصحوبة بالغناء، وفي رواية المحاملي، نسمع رسول الله يأمر امرأة، تتقن الغناء وتحترفه، بالإسراع للغناء في بيت العريس.
فأثبت الحديث وجود صحابيات كن يتعاطين الغناء ويتقنه، وفي ذلك رد على من زعم أن الغناء لا يحترفه أهل الاستقامة.
ودل الحديث على كراهة البناء من غير إشهار بالغناء، لأن النبي أنكر ثم أمر بانطلاق المغنية لتشهر العرس.
ودل أيضا على جواز خروج النساء في موكب العروس وهن يغنين، بحيث يراهن الرجال ويسمعون غناءهن.
وهذا ما تؤكده روايات عدة، منها:
1 ـ عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم، مر بنساء من الأنصار، في عرس لهن، وهن يغنين: وأهدى لها أكبشـا / تبحبح في المربد / وزوجك في النادي/ ويعلم ما في غـد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يعلم ما في غد إلا الله عز وجل. أخرجه الطبراني في المعجمين الأوسط والصغير، والحاكم ، وابن نقطة في التكملة، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي في التلخيص، وحسنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري.
2 ـ وعن عمرة بنت عبد الرحمن قالت: كان النساء، إذا تزوجت المرأة أو الرجل، خرج جواري من جواري الأنصار يغنين ويلعبن، قالت: فمروا في مجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهن يغنين وهن يقلن: أهدى لها زوجها كبش / يبحبحن في المربد / وزوجها في النــادي/ يعلم ما في غــد ، وإن النبي صلى الله عليه وسلم قام إليهن فقال: سبحان الله، لا يعلم ما في غد إلا الله، لا تقولوا هكذا وقولوا: أتيناكم أتيناكم/ فحيانا وحياكم. رواه البيهقي في السنن وقال: هذا مرسل جيد.
قلت: بل رواه الحاكم، والبيهقي نفسه في موضع آخر عن عمرة عن عائشة، فارتفع الإرسال بحمد الله.
3 ـ وعن السائب بن يزيد قال: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جوار يتغنين يقلن: فحيونا نحييكم. فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم لهن، ثم دعاهن فقال: لا تقلن هكذا، ولكن قولوا: حيانا وإياكم. فقال رجل: يا رسول الله، أترخص للنساء في هذاَ! فقال: نعم، إنه نكاح لا سفاح، أشيدوا النكاح. رواه الطبراني في المعجم الكبير، وسلم الألباني صحته في الصحيحة1463، وصحيح الجامع الصغير1021.
4 ـ وعن أم نبيط رضي الله عنها قالت: أهدينا جارية لنا من بني النجار إلى زوجها، فكنت مع نسوة من بني النجار، ومعي دف أضرب به وأنا أقول: أتيناكم أتيناكـــم / فحيونا نحييكـم / ولولا الذهب الأحمر / ما حلت بواديكم ، فوقف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا يا أم نبيط؟ فقلت: بأبي أنت وأمي يا نبي الله! جارية منا من بني النجار، نهديها إلى زوجها. قال: فتقولين ماذا؟ قالت: فأعدت عليه قولي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولي: لولا الحنطة السمراء/ ما سمنت عذاريكم.
وهذا الحديث حسن الإسناد، أخرجه ابن منده، وأبو نعيم، وابن الأثير في أسد الغابة، والحافظ ابن حجر في الإصابة، ومن طريقه الشيخ الكتاني في التراتيب.
وقد أفاد هذا الحديث، أن لفظ الجارية يطلق على البالغ كما يطلق على غيرها، فهذه العروس سمتها أم نبيط جارية، فلا تكذبوا على الشريعة بادعائكم أن الجارية هي الصغيرة غير البالغة.
وفي الحديث حجة على مشروعية خروج النساء في موكب الزفاف، أو ما نسميه نحن في منطقة جبالة: “العمارية” بتشديد الميم.
فلا تضيقوا علينا ديننا، ولا تزعجوا المسلمين بفتاوى التحريم والتبديع.
نعم، ينبغي أن يكون الموكب محترما خاليا من الاختلاط والتبرج، وأن يكون الطريق آمنا، وهو ما يحدث بالبوادي والقرى بحمد الله.
الدليل الثاني:
قال التابعي يحيى بن سليم: قلت لمحمد بن حاطب: إني تزوجت امرأتين، لم أضرب علي بدف. قال: بئس ما صنعت! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فصل ما بين الحلال والحرام الصوت بالدف. في رواية: «فَصْلُ مَا بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ الصَّوْتُ، وَضَرْبُ الدُّفِّ فِي النِّكَاحِ». أخرجه سعيد بن منصور، وأحمد، وابن أبي شيبة، والنسائي، والترمذي، والطبراني، والحاكم، وصححه أو حسنه الترمذي، والحاكم، والألباني في “إرواء الغليل”.
وفي الحديث ترهيب وتنفير من عدم الإعلان عن الزواج بالدف والغناء، لذلك اشتد إنكار الصحابي محمد بن حاطب على السائل.
فعلى المتشدقين باتباع السلف أن يجيبوا على هذا السؤال: إنكم تدعون الاقتداء بالسلف، ثم تحيون أعراسكم بالمواعظ وتلاوة القرآن، وهو عمل جليل لكنه لم يثبت عن النبي وأصحابه في الولائم، وتتركون ما أوصى به وأقره.
الدليل الثالث:
قال زوج ابنة أبي لهب: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين تزوجت ابنة أبي لهب فقال: هل من لهو.
وهذا حديث حسن، رواه أحمد وابن أبي شيبة في المسند، وابن أبي عاصم في الآحاد، والطبراني، والخطيب في تاريخ بغداد، وابن طاهر المقدسي في رسالة الغناء، وصححه هو والأرنؤوط.
وقد أنكر الرسول عدم اللهو، أي الغناء، فدل إنكاره على استحبابه في العرس.
ويشبهه هذا الأثر: قال ابن كثير في مسند الفاروق (1/ 396): قال أبو بلال الأشعري: حدثنا محمد بن أبان عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمع عمر صوتا في دار، فقال: ما هذه الضوضاء؟ فقالوا: عرس، فقال: فهلا حركوا من غزائلهم، يعني الدفوف.
الدليل الرابع:
روى التابعي خالد بن ذكوان عن الربيع بنت معوذ بن عفراء قالت: جاء النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل حين بني علي، فجلس على فراشي كمجلسك مني، فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف، ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر، إذ قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غد. فقال: دعي هذه، وقولي بالذي كنت تقولين.
هذا الحديث في مسند أحمد وصحيح البخاري، وسنن أبي داود، وسنن الترمذي، وسنن ابن ماجه.
ويصور لنا مدى الانفتاح الذي كان عليه سلفنا الأول، فالنبي عليه السلام كان مع العريسين في بيتهما بل إلى جنبهما على السرير، ولا شك أنه جاء يبارك مصحوبا ببعض الرجال، ونرى الفتيات تغنين وهو يتابع ويستمع ويوجه.
ثم يدخل على الربيع بنت معوذ رضي الله عنها جماعة من التابعين، فيجلس أحدهم على فراشها دون تعقيد، فيسألونها عن الغناء يوم عاشوراء، وتخبرهم أنه جائز، وتروي لهم قصتها مع رسول الله.
فهل يجرؤ المنتسبون للسلف على أن يفعلوا مثل ذلك؟ بل هل يفتون بمشروعيته لمن يستطيع أن يفعل؟ كلا فهم أغير على الدين من النبي الأمين.
بل إنهم يتمنون أن هذا الحديث لم يخرج في صحيح البخاري، فمن فوائده: سنية الغناء وضرب الدف في الأعراس، وجواز سماع الرجال للمغنيات مباشرة.
الدليل الخامس:
عن عبد الله بن هبار عن أبيه قال: زوج هبار ابنته، فضرب في عرسها بالكير[الطبل الكبير] والغربال[هو الدف]. فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟ قالوا: زف هبار ابنته، فضرب في عرسها بالكير والغربال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشيدوا النكاح، أشيدوا النكاح، هذا نكاح لا سفاح.
رواه الطبراني، والحسن بن سفيان في المسند، والإسماعيلي في المعجم، وأبو نعيم في معرفة الصحابة، والخطيب في المؤتلف، وابن الأثير في الأسد، وحسنه الشيخ الألباني في صحيحته تحت رقم1463.
وفيه التصريح بجواز استعمال الطبول، فهل للمحرمين مسكة من العقول؟
الدليل السادس:
قال التابعي عامر بن سعد البجلي: دخلت على أبي مسعود وأبي وثابت بن يزيد، وجوار يضربن بدف لهن ويغنين، فقلت: تقرون بهذا وأنتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم! قالوا: إنه رخص لنا في الغناء في العرس، والبكاء على الميت في غير نوح.
في رواية: شَهِدْتُ ثَابِتَ بْنَ وَدِيعَةَ وَقُرُظَةَ بْنَ كَعْبٍ الْأَنْصَارِيَّ فِي عُرْسٍ، وَإِذَا غِنَاءٌ، فَقَالَ لَهُمْ في ذلك. فقال: إِنَّهُ رُخِّصَ فِي الْغِنَاءِ فِي الْعُرْسِ، وَالْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ فِي غَيْرِ نِيَاحَةٍ.
هذا حديث صحيح، أخرجه الطيالسي، وابن أبي شيبة، والنسائي، والحاكم، وابن قانع، والطبراني، والبيهقي، والخطيب البغدادي في “الموضح”، وابن حزم في رسالة الغناء. وصححه الحاكم والدارقطني.
وفيه التصريح بأن هؤلاء الصحابة، كانوا حاضرين في مجلس تغني فيه الجواري بالدف، وإشارة إلى أن التشدد في موضوع الغناء بدأ بعد الصحابة بسبب جهل بعض التابعين.
الدليل السابع:
قال خارجة بن زيد: دعينا إلى مأدبة في آل نبيط، فحضرتها وحسان بن ثابت قد حضرها، فجلسنا جميعا على مائدة واحدة، وهو يومئذ قد ذهب بصره، ومعه ابنه عبد الرحمن، فكان إذا أتى طعام سأل ابنه: أطعام يد أم يدين؟ يعني باليد الثريد وباليدين الشواء لأنه ينهش نهشا، فإذا قال طعام: يدين أمسك يده. فلما فرغوا من الطعام، أتوا بجاريتين، إحداهما رائقة والأخرى عَزّة، فجلستا وأخذتا مزهريهما، وضربتا ضربا عجيبا، وغنتا بقول حسان: انظر خليلي بباب جلق هل / تبصر دون البلقاء من أحد. فأسمع حسانا يقول: قد أراني بها سميعا بصيرا، وعيناه تدمعان، فإذا سكتتا سكت عنه البكاء، وإذا غنتا بكى، فكنت أرى ابنه عبد الرحمن إذا سكتتا يشير إليهما أن تغنيا، فيبكي أبوه، فأقول: ما حاجته إلى إبكاء أبيه!
قال الأنجري: هذا أثر صحيح، ورد من طرق فاقت العشرة طريقا، بعضها صحيح، وبعضها حسن، وبعضها ضعيف. انظرها في الموفقيات للزبير بن بكار، وتأويل مختلف الحديث لابن قتيبة، والكامل في اللغة للمبرد، وأغاني الأصفهاني، والعقد الفريد لابن عبد ربه، وتاريخ دمشق لابن عساكر.
وقد درستها بحمد الله كلها، فوجدت أن المأدبة كانت عرسا لبنت الصحابي الجليل زيد بن ثابت الأنصاري، وكانت بالمدينة المنورة في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وحضرها كثير من المهاجرين والأنصار وعامة أهل المدينة، وهذه فوائدها:
أولا: وجود المغنيات أيام الصحابة واقع لا ينكر، فرائقة وعزة الميلاء، كانتا تحترفان الغناء زمن الصحابة، ولم ينكر عليهما أحد منهم.
ثانيا: حضور الرجال مجالس الغناء، كان عادة مقبولة في أيام الصحابة، فقد كانوا رضي الله عنهم بعيدين عن التشدد والتعسير المضمن في كلام ابن تيمية أول المقال، واتباع الصحابة أسلم من تقليد ألف مثل ابن تيمية رحمه الله.
بل لست أشك في أن التشدد كان وراء تجنب المحدثين لرواية القصة في كتبهم باستثناء ابن قتيبة الذي كان يجيز الغناء، فهي مشهورة لا يعقل أن يجهلها أهل الحديث.
ثالثا: استعمال المزهر، وهو العود، والضرب عليه، كان معروفا منذ سلفنا الأول، فتخصيص الجواز بالدف، مخالفة لإقرار الصحابة وفي مقدمتهم عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وروى أبو الفرج الأصفهاني في “الأغاني”4/290 بإسناد حسن عن عوانة بن الحكم قال: لما أراد عبد الله بن جعفر إهداء بنته إلى الحجاج، كان ابن أبي عتيق عنده، فجاءه الدلال متعرضا فاستأذن، فقال له ابن جعفر: لقد جئتنا يا دلال في وقت حاجتنا إليك! قال: ذلك قصدت. فقال له ابن أبي عتيق: غننا. فقال ابن جعفر: ليس وقت ذلك، نحن في شغل عن هذا. فقال ابن أبي عتيق: ورب الكعبة ليغنين. فقال له ابن جعفر: هات! فغنى ونقر بالدف، والهوادج والرواحل قد هيئت، وصيرت بنت ابن جعفر فيها مع جواريها والمشيعين لها: يا صاح لو كنت عالما خبرا // بما يلاقي المحب لم تلمه ، لا ذنب لي في مقرط حسن // أعجبني دله ومبتسمــه ، شيمته البخل والبعاد لنــا // يا حبذا هو وحبذا شيمـه، مضمخ بالعبير عارضــه // طوبى لمن شمه ومن لثمه.
فطرب ابن جعفر وابن أبي عتيق، وقال له ابن جعفر: زدني وطرب. فأعاد اللحن ثلاثا ثم غنى: بكر العواذل في الصباح يلمنني وألومهنه // ويقلن شيب قد علاك وقد كبرت // فقلت إنه ومضت بنت ابن جعفر.
فدمعت عينا عبد الله بن جعفر، وقال للدلال: حسبك! فقد أوجعت قلبي، وقال لهم: امضوا في حفظ الله على خير طائر وأيمن نقيبة.
قلت: رجال هذا الأثر كلهم موثقون، وأبو الفرج إمام ثقة عند الإمام الذهبي وغيره من المنصفين، وأجرم في حقه المعقدون من العلماء، لأن كتابه اشتمل على حكايات المجان والفساق إلى جنب الأحاديث والآثار، ونسوا أن تفسير الطبري وتاريخه مثلا، يشتملان على روايات إلحادية شركية تطعن في الله والأنبياء.
وفي هذا الأثر دليل قاطع على أن تعاطي الرجال للغناء كان مشهورا زمن الصحابة، فالقول بأنه خاص بالنساء، مردود.
وفيه صورة للانفتاح والتسامح عند السلف، خلافا للتشدد والغلو عن الخلف.
وقد احتججنا بهذين الأثرين لأنهما ينسبان الإباحة لجماعة من الصحابة، مع إقرار الباقين، فهم سلفنا لا الفقهاء المتعصبون.
الدليل الثامن:
عن عائشة عليها الرضا أن أبا بكر رضي الله عنه دخل عليها، وعندها جاريتان في أيام منى، تدففان وتضربان، والنبي صلى الله عليه وسلم متغش بثوبه، فانتهرهما أبو بكر، فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن وجهه فقال: دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد. وفي رواية: أن أبا بكر دخل عليها، والنبي صلى الله عليه وسلم عندها، يوم فطر أو أضحى، وعندها قينتان تغنيان بما تقاذفت الأنصار يوم بعاث، فقال أبو بكر: مزمار الشيطان، مرتين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعهما يا أبا بكر، إن لكل قوم عيدا وإن عيدنا هذا اليوم!
هذا الحديث مخرج في الصحيحين، وسنن أبي داود، وسنن النسائي، وسنن ابن ماجه.
وفيه برهان على استحباب الغناء يوم العيد.
والقينة هي المرأة المغنية المتقنة، فهو إشارة قوية إلى كبر الجاريتين، ثم إن أم المؤمنين لم تكن صغيرة عند القصة، فقد بنى بها المصطفى بعد البلوغ، ثم إنها صرحت بأن الواقعة كانت أيام منى، أي في حجتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة، وقد كان عمرها حينئذ ثمان عشرة سنة، نص على ذلك كثير من أهل الحديث، بل يرى بعض المعاصرين أنها كانت أكبر من ذلك كثيرا، فالجاريتان كانتا بالغتين مثلها، لأنها لا يعقل أن تصحب قاصرتين.
وما قاله سيدنا أبو بكر لم يقره عليه مولانا النبي، بل انتهره بطريقة مهذبة تليق بالكبار، فلا حجة فيه على أن الغناء مزمار الشيطان، وإذا تسامحنا، فتلك التسمية لا تؤثر على حكم الغناء، لأن النبي أقره في مواطن متنوعة، فيكون إقرار التسمية مقترنا بما يدل على أنها لا تعني التحريم.
وهذا فقه دقيق، لا يدركه إلا أهل التحقيق، ومن الله التوفيق.
الدليل التاسع:
قالت أمنا عائشة: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسترني، وأنا أنظر إلى الحبشة، وهم يلعبون في المسجد، فزجرهم عمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعهم، أمّنا بني أرفدة، يعني من الأمن. في رواية: جاء حبش يزفنون في يوم عيد في المسجد، فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم، فوضعت رأسي على منكبه، فجعلت أنظر إلى لعبهم، حتى كنت أنا التي أنصرف عن النظر إليهم. رواه الشيخان.
وعن أنس بن مالك: كانت الحبشة يزفنون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرقصون ويقولون: محمد عبد صالح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يقولون؟ قالوا: يقولون: محمد عبد صالح.
رواه أحمد، وابن حبان، والضياء في المختارة مصححا.
تضمن الحديث أن وفدا من الحبشة جاء لملاقاة النبي صلى الله عليه وسلم، فصادفوا يوم عيد، فشاركوا أهل المدينة فرحتهم، ومارسوا فولكلورهم الشعبي داخل المسجد النبوي، فكانوا يغنون ويرقصون ويلعبون بالحراب، والرسول وبعض نسائه وأصحابه يتفرجون.
وكان سيدنا عمر يظن أن ذلك لا يجوز في المسجد، وأن النبي لا يعلم، فزجر الأحباش، لكن الحبيب الرحيم بعامة الناس انتهره بأدب كما فعل مع مولانا الصديق، وأكد له بالقول والفعل أن ظنه غير صائب.
وفي الحديث دليل على مشروعية غناء الرجال بحضرة النساء، وفيه حجة على أن الإطراب والاضطراب أثناءه ليس من خوارم المروءة، وجواز سماع الغناء بغير اللغة العربية، فإن هؤلاء الحبشة كانوا يرقصون ويغنون، حتى كان النبي لا يفهم كلامهم الأعجمي.
الدليل العاشر:
قال قيس بن سعد رضي الله عنه: ما كان شيء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقد رأيته، إلا شيء واحد، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُقَلَّس له يوم الفطر.
أخرجه أحمد، وابن ماجه، والطبراني، والطحاوي، والبيهقي، وصححه الحافظ البوصيري في “مصباح الزجاجة”، وهو كما قال، وضعفه الألباني بدون حجة، لذلك خالفه عواد معروف.
وله شاهد حسن: فعن عياض الأشعري أنه شهد عيدا بالأنبار فقال: ما لي لا أراكم تقلسون، كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلونه. في رواية: “مَا لِيَ لَا أَرَاهُمْ يُقْلِسُونَ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ أَوْ يَصْنَعُ”.
رواه ابن أبي شيبة في المسند، والبخاري في التاريخ، وابن ماجه، وابن أبي عاصم في الآحاد، والبيهقي في سننه، والخطيب في تاريخه.
قال البوصيري: هذا إسناد رجاله ثقات.هـ لكن عياضا الأشعري مختلف في صحبته، لذلك هو حسن بما قبله، وأخطأ الألباني وعواد بتضعيفه.
والتقليس هو الغناء وضرب الدفوف خلال استقبال الولاة والعظماء عند قدومهم، واللعب بين أيديهم بأصناف اللهو.
فدل الحديث على أن الغناء، بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم العيد، كان سنة يداوم عليها، ثم إن بعض الأمراء تركوها، فأنكر ذلك قيس وعياض رضي الله عنهما.
وفي ذلك دليل على أن كثيرا من السنن تم إهمالها في وقت مبكر، وأن تشديد الدين بدأ يتسرب إلى الأمة بعد وفاة النبي بوقت قصير، أي في آخر عهد الصحابة.
الدليل الحادي عشر:
عن أم علقمة مولاة عائشة أن بنات أخي عائشة رضي الله عنها خُفضن فألمن ذلك، فقيل لعائشة: يا أم المؤمنين، ألا ندعو لهن من يلهيهن؟ قالت: بلى. فأرسلت إلى فلان المغني فأتاهم، فمرت به عائشة رضي الله عنها في البيت، فرأته يتغنى ويحرك رأسه طربا، وكان ذا شعر كثير، فقالت عائشة رضي الله عنها: أف شيطان أخرجوه أخرجوه! فأخرجوه.
رواه البخاري في الأدب المفرد، والبيهقي في السنن، وصححه ابن رجب في “نزهة الأسماع”، وحسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد.
والخفاض هو الختان للإناث، ودل الأثر على ما يلي:
أولا: الغناء في الختان كان سنة في زمن الصحابة، دل عليه قولهم لمولاتنا عائشة: “ألا ندعو لهن من يلهيهن”؟
ثانيا: تعاطي الرجال للغناء كان مقبولا عند أهل القرن الأول، فإن الرجل الذي أرسلت إليه عائشة، كان مغنيا بنص الخبر، وقد أورد البيهقي حديثه في: باب الرجل يغني، فيتخذ الغناء صناعة يؤتى عليه ويأتي له، ويكون منسوبا إليه مشهورا به معروفا أو المرأة.ه
وقد يتمسك المعاند بقول عائشة “أف شيطان أخرجوه”، فيقال:
إن عائشة رضي الله عنها هي التي أرسلت إليه، فلا يجوز القول بأنها تحرم الغناء على الرجال.
أما ما قالته، فهو بسبب كثرة شعره، وهي في ذلك تستحضر حديثا شبه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا بالشيطان لما أقبل عليه بشعر كثير غير ممشوط.
الدليل الثانـي عشر:
عن ابن سيرين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان إذا سمع صوتا أو دفا قال: ما هذا؟ فإن قالوا: عرس أو ختان، صمت. وفي رواية: كان إذا سمع دف أو كبر، فقالوا عرس أو ختان، سكت.
هذا أثر مرسل صحيح، وهو في سنن ابن منصور، ومصنف عبد الرزاق، ومصنف ابن أبي شيبة، وسنن البيهقي.
وضعفه الألباني في “تحريم الطرب”، بالانقطاع بين ابن سيرين وعمر بن الخطاب رضي الله عنه، متجاهلا عن عمد قاعدة يعرفها جيدا، واستند إليها في الكتاب نفسه، وهي أن مرسلات ابن سيرين صحيحة، لأنه يروي عن الصحابة وثقات التابعين لا غير، قال ابن عبد البر في التمهيد1/30: وكل من عرف أنه لا يأخذ إلا عن ثقة، فتدليسه ومرسله مقبول، فمراسيل سعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي عندهم صحاح.ه
وفي الأثر دليل آخر على جواز الطبل، الذي هو الكبر المذكور في الأثر.
الدليل الثالـث عشر:
روى ابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا، والفاكهي، وابن قتيبة في “التأويل” عن عكرمة عن ابن عباس أنه ختن بنيه، فدعا اللاعبين، فأعطاهم أربعة دراهم.
وهذا أثر صحيح.
واللاعبون هم المغنون، فقد رواه ابن أبي شيبة في باب: ما قالوا في اللهو، وفي ضرب الدف في العرس.
وأورده الفاكهي تحت عنوان: ذكر قول أهل مكة في السماع والغناء في الأعراس والختان وفي القراءة بالألحان، وفعلهم ذلك في الجاهلية والإسلام.هـ
ويفيد جواز أخذ الأجرة على الغناء. وهذا أثر آخر يؤكد أن الغناء كان سنة السلف في الختان:
قال عيسى بن عبد الحميد: ختن عطاء ولده، فدعاني في وليمته في دار الأخنس، فلما فرغ الناس، جلس عطاء على منبر فقسم بقية الطعام، ودعا الغريض وابن سريج، فجعلا يغنيان، فقالوا لعطاء: أيهما أحسن غناء؟ فقال: يغنيان حتى أسمع. فأعادا واستمع فقال: أحسنهما الرقيق الصوت، يعني ابن سريج.
رواه الفاكهي، وأبو الفرج الأصفهاني، وابن عبد ربه في العقد الفريد، من طرق يفيد مجموعها صحة الأثر.
وصرحت بعض طرقه أن المغنيين كانا يضربان بالدف والقضيب.
ويزيده قوة ما رواه موسى بن المغيرة الجمحي قال: ختنني أبي، فدعا عطاء بن أبي رباح، فدخل الوليمة وثم قوم يضربون بالعود ويغنون، فلما رأوه أمسكوا، فقال عطاء: لا أجلس حتى تعودوا على ما كنتم عليه، فعادوا فجلس. رواه الفاكهي في تاريخ مكة بإسناد جيد.
وعطاء بن أبي رباح من تلامذة ابن عباس الكبار، فثبت أن الغناء كان شائعا في الختان، وأن تعاطي الرجال للغناء لم يكن مشكلة بالنسبة لأهل الزمن الأول، بخلاف من تأخروا عنهم، فإنهم حولوا الدين إلى مجموعة من العقد والإشكالات.
الدليل الرابع عشر:
عن بريدة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه، فلما انصرف، جاءت جارية سوداء فقالت: يا رسول، إني كنت نذرت إن ردك الله صالحا، أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا. فجعلت تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل علي وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، ثم دخل عمر، فألقت الدف تحت أستها، ثم قعدت عليه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان ليخاف منك يا عمر، إني كنت جالسا وهي تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل علي وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، فلما دخلت أنت يا عمر ألقت الدف! ( مسند أحمد، وسنن الترمذي، وفضائل الصحابة لابن حنبل، وصحيح ابن حبان، وسنن البيهقي، والتحقيق في أحاديث الخلاف لابن الجوزي، وصححه الترمذي، وابن حبان، وابن القطان الفاسي، والشوكاني، وجوده الوادياشي في تحفة المحتاج، وأورده الألباني في صحيحته وقال: إسناده جيد، رجاله ثقات رجال مسلم).
ورواه ابن حبان في موارد الظمآن بإسناد صحيح بزيادة ففيه: رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض مغازيه، فجاءت جارية سوداء فقالت: يا رسول الله، إني نذرت إن ردك الله سالما أن أضرب على رأسك بالدف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن نذرت فافعلي وإلا فلا. قالت: إني كنت نذرت. فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وضربت بالدف وقالت:
أشرق البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا للـه داع
فدلت هذه الزيادة على أن أغنية “طلع البدر علينا”، قيلت عند العودة من غزوة تبوك، فقصة المرأة كانت بعدها.
والحديث دليل قاطع على جواز الغناء عند قدوم الغائب، أو انتصار المسلمين في الحرب، أو زيارة شخصية عظيمة لمنطقة.
وهذا ما فهمه جماهير الفقهاء والأئمة الأعلام شراح الحديث والمحتجون به، والمقام لا يسمح بذكر كلامهم، فراجع ثم كذبني.
وانظر إلى سماحة الإسلام الممثل في النبي الأكرم: صحابية تغني في مكان عام أمام جمهور كبير يتقدمه النبي عليه السلام.
وقد يتمسك بعضهم بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم للمرأة: “إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا”، فيقول: إنما أذن الرسول صلى الله عليه وسلم للمرأة لأنها نذرت، فيكون الجواز مشروطا بالنذر.
فنقول: الذي ينطق بمثل هذا الكلام يفضح نفسه ويكشف جهله، فإن المحرم والمكروه يبقيان على وصفيهما وإن نذرهما المسلم، وما يجب الوفاء بنذره، يكون في أصله مباحا أو مستحبا، وهذا أمر معلوم عند طلبة العلم قبل مشايخه، لحديث: “لا نذر في معصية الله”.
ومقولة النبي في حق سيدنا عمر، هدفها تطييب خاطره، فكأنه يقول له: لا تحزن مما فعلت المرأة، فإن كل شيء يهابك، بما في ذلك الشيطان!
أو أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يثبت للحاضرين رباطة جأش عمر رضي الله عنه، وأن الشيطان لن يوسوس له بسبب ما صدر من المرأة، فقال له ذلك.
فمن استدل بتلك المقولة على تحريم الغناء، متجاهلا إذن النبي وسماعه مع آلاف الصحابة للمرأة، فهو مجرم دجال.
الدليل الخامس عشر:
قال خالد بن ذكوان: كنا بالمدينة يوم عاشوراء، والجواري يضربن بالدف ويتغنين، فدخلنا على الربيع بنت معوذ، فذكرنا ذلك لها فقالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة عرسي، وعندي جاريتان يتغنيان وتندبان آبائي الذين قتلوا يوم بدر، وتقولان فيما تقولان: وفينا نبي يعلم ما في غد. فقال: أما هذا فلا تقولوه، ما يعلم ما في غد إلا الله!
وقد سلف ذكر هذا الحديث، وأنه في صحيح البخاري وغيره من دون ذكر عاشوراء، وهذه الزيادة صحيحة عند ابن ماجه والطبراني.
وفيها أن الجواري كن يضربن ويغنين يوم عاشوراء، وأن ذلك كان في المدينة المنورة، حيث الصحابة متوافرون، وكل ذلك يعني أن السلف لم يكونوا متشددين في مسألة الغناء، وأنه كان مألوفا عندهم يوم عاشوراء.
وانظر كيف استدلت الصحابية الربيع بنت معوذ بالغناء في عرسها على مشروعيته في عاشوراء، بجامع علة الفرح، والصحابية أفقه وأعقل من الفقهاء الذين يقيدون الإباحة بالعيد والعرس، هداهم الله وبصرهم.
الدليل السادس عشر:
عن جابر بن عبد الله قال: كان الجواري إذا نكحوا، كانوا يمرون بالكبر والمزامير، ويتركون النبي صلى الله عليه وسلم قائما على المنبر وينفضون، فأنزل الله: {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها}
أخرجه الطبري في تفسير سورة الجمعة، وأبو عوانة في صحيحه، وعزاه إليه الحافظ في فتح الباري3/76، وسكت عنه، وصححه أبو عوانة، ومقبل الوادعي في “الصحيح المسند”.
وعن أبي هريرة قال: قدم دحية الكلبي المدينة، وكان جميلا، فخرج ناس، يعني يوم الجمعة من المسجد، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، يسألون عن السفر، وخرج جوار من جواري المدينة يضربن بدفوفهن، فأنزل الله عز وجل: {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتكوك قائما}. أخرجه الإمام ابن عساكر في تاريخ دمشق بإسناد حسن.
وظاهر السياق أن الجواري خرجن تضربن بالدفوف لاستقبال دحية رضي الله عنه، وهو ما يكشف عنه هذا الطريق: عن مقاتل بن حيان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة، قبل الخطبة مثل العيدين، حتى كان يوم جمعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، وقد صلى الجمعة، فدخل رجل فقال: إن دحية بن خليفة قدم بتجارته، وكان دحية إذا قدم تلقاه أهله بالدفاف، فخرج الناس، فلم يظنوا إلا أنه ليس في ترك الخطبة شيء، فأنزل الله عز وجل: {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها}، فقدم النبي صلى الله عليه وسلم الخطبة يوم الجمعة وأخر الصلاة.
في رواية: فاستقبل أهل دحية العير، دخلوا المدينة بالطبل واللهو، فذلك اللهو الذي ذكر الله، فسمع الناس في المسجد أن دحية قد نزل بتجارة عند أحجار الزيت، وهو مكان في سوق المدينة، وسمعوا أصواتا، فخرج عامة الناس إلى دحية ينظرون إلى تجارته وإلى اللهو، وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما ليس معه كثير أحد، فبلغني والله أعلم أنهم فعلوا ذلك ثلاث مرات، في كل مرة بعير تقدم من الشام للتجارة، وكان ذلك يوافق الجمعة.
رواه أبو داود في المراسيل ص105، والبيهقي في الشعب5/234، ورجال أبي داود ثقات.
ومقاتل لم يدرك الحادثة، لكنه يرويه عن الضحاك عن ابن عباس، كما عند الحافظ ابن بشكوال في الغوامض2/852.
والضحاك بن مزاحم، مختلف في سماعه من ابن عباس، فهو منقطع، لكنه حسن بشواهده المتقدمة.
وأصل القصة في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله قال: بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أقبلت من الشام عير تحمل طعاما، فالتفتوا إليها، حتى ما بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلا، فنزلت: {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها}.
وقال الإمام مجاهد بن جبر في تفسيره2/674: كانوا يقومون إلى نواضحهم وإلى السفر يقدمون يبتغون التجارة، وينظرون إلى اللهو، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فأنزل الله عز وجل: {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوآ إليها وتركوك قائما}. وقال أيضا: اللهو الطبل.
قلت: هذا مرسل صحيح، ومجاهد أخذ التفسير عن ابن عباس، فهو يقوي طريق الضحاك.
وفي “الدر المنثور” للسيوطي: أخرج ابن جرير وابن المنذر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب الناس يوم الجمعة، فإذا كان نكاح لعب أهله وعزفوا ومروا باللهو على المسجد، وإذا نزل بالبطحاء جلب، وكانت البطحاء مجلسا بفناء المسجد الذي يلي بقيع الغرقد، وكانت الأعراب إذا جلبوا الخيل والإبل والغنم وبضائع الأعراب نزلوا البطحاء، فإذا سمع ذلك من يقعد للخطبة قاموا للهو والتجارة وتركوه قائما، فعاتب الله المؤمنين لنبيه صلى الله عليه وسلم فقال: {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما}.
فصح أن الناس كانوا يستقبلون الغائبين بالغناء والضرب بالدفوف والطبول، وأنهم كانوا يعلنون عن قدوم التجار بذلك، ولم ينكر الشرع عليهم إلا الانفضاض إلى اللهو والتجارة وقت صلاة الجمعة وخطبتها.
وبهذا الدليل، تسقط دعوى اختصاص النبي باستقباله بالغناء وضرب المزامير، سقوطا لا مرية فيه.
والكبر هو الطبل، والمزامير لفظ يطلق على جميع آلات الطرب، وكلمة “عزفوا” تستلزم وجود المعازف، فالحديث دليل على أنها كانت مباحة زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والآية لا تحرم اللهو، بل تحرم الخروج من المسجد يوم الجمعة للتجارة أو سماع اللهو، وإلا فهي تحرم التجارة، لأنها ذكرت اللهو والتجارة.
وقد استمرت هذه السنة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، حيث فعلها وأقرها كبار السلف كما يشير هذا المثال:
روى الإمام الثقة، رغم أنف الدجالين، أبو الفرج في الأغاني4/219 من طرق ثلاثة أن أبان بن عثمان، وفد على عبد الملك بن مروان، فأمره على الحجاز، فأقبل حتى إذا دنا من المدينة، تلقاه أهلها وخرج إليه أشرافها، فخرج معهم طويس، فلما رآه سلم عليه ثم قال له: أيها الأمير، إني كنت أعطيت الله عهدا لئن رأيتك أميرا، لأخضبن يدي إلى المرفقين ثم أزدو بالدف بين يديك! ثم أبدى عن دفه وتغنى بشعر ذي جدن الحميري: ما بال أهلك يا رباب / خزرا كأنهم غضاب. فطرب أبان حتى كاد أن يطير، ثم جعل يقول له: حسبك يا طاوس، ولا يقول له: يا طويس، لنبله في عينه، ثم قال له: اجلس فجلس. فقال له أبان: قد زعموا أنك كافر. فقال: جعلت فداءك، والله إني لأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأصلي الخمس وأصوم شهر رمضان وأحج البيت. فقال: أفأنت أكبر أم عمرو بن عثمان؟ وكان عمرو أخا أبان لأبيه وأمه، فقال له طويس: أنا والله جعلت فداءك، مع جلائل نساء قومي أمسك بذيولهن يوم زفت أمك المباركة إلى أبيك الطيب. فاستحيا أبان ورمى بطرفه إلى الأرض.
قلت: هذا أثر صحيح، له ثلاثة طرق، أحدها صحيح بمفرده.
ومحل الشاهد في هذه القصة، هو أن أهل المدينة استقبلوا أميرهم أبان بن عثمان بن عفان، ومعهم طويس المغني، وقد استأذنه في التقليس فأذن له، وكان فيهم أبناء الصحابة، وكبار التابعين، وربما كان بينهم بعض الأصحاب، فهذا يثبت أن استقبال الأمراء والقادمين من سفر، أمر مفروغ من جوازه لدى السلف الصالح.
وهل تدري من هو أبان بن عثمان؟ إنه تابعي جليل، وأحد فقهاء المدينة السبعة، توفي سنة 105 هـ، وروى عن أبيه سيدنا عثمان، وأدرك بعض الصحابة. قال فيه عمرو بن شعيب: ما رأيت أحدا أعلم بحديث ولا فقه من أبان بن عثمان! فها أنت أمام جبل من العلم، لم يدر بخلده أن التقليس من خصائص النبوة.
واتهام طويس المغني بالكفر أمارة على أن الناس، عامة وعلماء، يتسرعون فيحكمون على الفنانين بالكفر أو الفسوق، وهو مزلق قاتل للإيمان يا سادة.
تعلموا النقد العلمي، واقبلوا الحق من العالم والأمي، واصبروا حتى تسمعوا كل الأدلة، فإن الأمر دين وملة.
-خريج دار الحديث الحسنية
[email protected]