اقتلهم ولا تعتقلهم.. القصة المدهشة للدرونز الأميركية الممسكة بأطراف الأرض
في ساحات الصراع المختلفة حول العالم لا صوت يعلو فوق أزيز الطائرات بدون طيار المسلحة. فقبل عقد واحد من الزمان، كان امتلاك الدرونز المسلحة حقا حصريا تتمتَّع به الولايات المتحدة، قبل أن تقتحم الساحة قوى جديدة في مقدمتها الصين وإسرائيل، وأخيرا تركيا، النجم الصاعد الجديد في عالم الطائرات بدون طيار. وبمرور الوقت، كُسِر احتكار الدرونز وصارت تُستخدم حتى من قِبَل الفاعلين غير الحكوميين مثل حزب الله وجماعة الحوثي، وعلى الرغم من ذلك فإن الولايات المتحدة تظلّ مُتفوِّقة تقنيا في هذا المضمار بفارق كبير عن كل مَن سواها، بعدما حوَّلت الدرونز من مجرد أداة في ترسانة الحرب إلى منظومة كاملة للإمساك بأطراف الأرض.
في لحظة وُصِفت بأنها "ثقيلة الدم"، وفي موقف اعتبره البعض "إهانة" للأميركيين؛ ألقى بوش الابن، الذي كان قد بدأ غزوه للعراق بذريعة "البحث عن أسلحة الدمار الشامل"، مزحة أثناء عشاء المراسلين في البيت الأبيض لعام 2004، قائلا: "هذه الأسلحة لا بد أن تكون في مكان ما، ربما قد تكون هنا تحت سقف البيت الأبيض".
بعد ستة أعوام، وفي تصادف يمكن وصفه بالنادر بين الرئيس الجمهوري وخلفه الديمقراطي، وفي المناسبة ذاتها، أي عشاء المراسلين في البيت الأبيض، ألقى باراك أوباما، الأكثر كاريزمية والأقل سماجة، مزحة اعتبرها البعض "مُهينة" كذلك، مُوجِّها حديثه لفرقة "جوناس برذرز" الذين كانوا حاضرين بقوله: "ابنتاي ميليا وساشا معجبتان كبيرتان، لكن إياكم أن تُفكِّروا بأي شيء، لديّ كلمتان لكم: بريديتور درونز، ولن تتوقَّعوا قدومها أبدا".
تعكس مزحة أوباما، عرَّاب استخدام الطائرات بدون طيار المُسماة بـ "الدرونز" (Drones)، الحجم الذي أولاه الرئيس الديمقراطي لاستخدام الطائرات القاتلة، إذ على الرغم من أن سلفه بوش هو الذي بدأ باستخدامها رسميا، فإن استخدامها تضاعف خلال عهد أوباما عشر مرات كاملة، من 57 ضربة في فترتين رئاسيتين لبوش، إلى 563 ضربة في فترتين رئاسيتين لأوباما، في أوضح انقلاب يدخله استخدام الدرونز على شكل الحروب العسكرية، من التقليدية المعتمدة على الالتحام المباشرة، إلى شكل غير تقليدي يعتمد على الاستهداف عن بُعد، ناهيك بالانقلاب الذي أحدثته الدرونز القاتلة في فضاء النظريات الحربية والعسكرية السائدة.
يرى أول المُنظِّرين الحربيين الفعليين وواضع الأُسس المنهجية لـ "دراسة الحرب"، البروسي كارل فون كلاوزفيتز، صاحب التنظير الشهير: "الحرب شكل من أشكال الوجود الاجتماعي"، في كتابه الكلاسيكي "عن الحرب" أن الحرب في جوهرها "صراع إرادات قائم على العنف بالدرجة الأولى"، أي إن الحرب امتداد للسياسة، وقد تكون حالة اقتصادية واجتماعية ونفسية، قائمة على العنف والصراع، خدمة للسياسة، لكن هذا المفهوم لم يستمر طويلا، حيث ساهمت الحروب الجوية، وبشكل أكبر أتمتتها من خلال الدرونز، في قلب هذا المفهوم التاريخي الكلاسيكي.
تأسَّست تقنية الدرونز بعد الحرب العالمية الأولى، وتطوَّرت تدريجيا حتى بلغت أوجها على يد مهندس الطيران الإسرائيلي أبراهام كاريم، الذي بدأ عمله من مرآب في ولاية كاليفورنيا الأميركية في ثمانينيات القرن الماضي، ثم توسَّع بفضل مِنَح وكالة مشروعات البحث الدفاعي المُتقدِّمة الأميركية "داربا"، صاحبة النسخ الأولية من المشاريع الرائدة تقنيا مثل الجي بي إس وشبكة الإنترنت، إلى أن وصل عمله إلى الشركة رائدة الطائرات بدون طيار العالمية اليوم جنرال أتوميكس، صانعة الدرون الأكثر شهرة واستخداما وفتكا عالميا: البريديتور أو "المفترسة"، وزميلتها الأحدث الريبر أو "الحاصدة"، التي تشتريها وكالة المخابرات المركزية، المسؤول الأول عن عمليات الاغتيال باستخدام الطائرات بدون طيار.
وجد باراك أوباما في الطائرات بدون طيار ضالّته لتطبيق عقيدته المعتمدة على تحقيق النتائج دون التحام مباشر، فهو مَن اعتبر أكبر أخطائه مشاركته المباشرة في ليبيا، وأفضل قراراته عدم ال في سوريا، كما عرفنا من خلال حواره الشهير مع جيفري جولدبرج المُعنون بـ "عقيدة أوباما"، كما وجدت بها المخابرات المركزية الأميركية ضالّتها في التخلُّص الفعّال من أعدائها دون محاكمات، بعد أن اكتشفت تكلفة اعتقال المُشتبه بهم بدون تهم وأسرهم في سجون حول العالم، أبرزها معتقل "غوانتنامو"، وأثر ذلك على سمعة الولايات المتحدة، وهو ما دفع واشنطن للتحوُّل عن سياسة "الإيهام بالغرق" إلى سياسة "اقتل ولا تعتقل"، ما مَثَّلَ اغتيالا لمبدأ الدبلوماسية، وانتقالا للصدارة في السياسة الخارجية من وزارة الخارجية إلى المخابرات الأميركية ووزارة الدفاع.
تعتمد هذه الحروب الجديدة على تقنية مُكلِّفة، إذ إن كل ساعة تُحلِّق بها طائرة بدون طيار في الجو تُكلِّف ما بين 2000-3500 دولار، ناهيك بالارتفاع المُطَّرد لعدد ساعات التحليق في الجو بنسبة 3000% خلال الأعوام بين 2002-2010، حيث لم تفارق طائرات (البريديتور) الأجواء في العراق وأفغانستان، وأطلقت آلاف صواريخ الهيل فاير أو "نيران الجحيم" التي يُكلِّف الواحد منها 68 ألف دولار، وبذلك يكون مفهوما أن تكون الميزانية الوحيدة التي لم يتم المساس بها من ميزانيات الدفاع هي ميزانية الطائرات بدون طيار، التي ارتفعت بنسبة 30% منذ عام 2008 حتى 2016، سلاح يُعتَبر مثاليا لمهام الدالات الثلاث (3D)، اختصار "الرتيبة والقذرة والخطيرة"، لتوفير الدعم للقوات البرية، وعمليات المراقبة، وقتل المستهدفين والمشتبه بهم، وما يرافق ذلك من مدنيين تصفهم المؤسسة العسكرية الأميركية بـ "الأضرار الجانبية"، وذُكِروا رقميا في إحصاء مكتب التحقيق الاستقصائي.
ضحايا المدنيين من الطائرات بدون طيار
يعود سبب الإقبال الكبير على الطائرات بدون طيار إلى ارتقائها من مستوى تعقُّب ومراقبة الأهداف فقط، بدون إمكانية إبداء رد فعل عملي، إلى اغتيال تلك الأهداف بسرعة مدهشة ودقة عالية، مُبدية نجاعتها القصوى في سياسة "قطع الرؤوس"، وهو اسم نُفِّذت بموجبه أوسع عمليات اصطياد لكبار قيادات تنظيم القاعدة المركزي في باكستان وأفغانستان، ومهَّد الطريق أيضا لإنهاء فرع التنظيم الأكبر "تنظيم القاعدة في شبه جزيرة العرب"، عبر اغتيال كبار قياداتها في اليمن، بدون كُلفة بشرية، من على بُعد آلاف الأميال، ودون تحمُّل عناء الحصول على إذن رسمي لاختراق الأجواء.
بينما يُكافِح عددٌ لا بأس به من القطاعات الصناعية الأميركية لتبقى واقفة على قدمَيْها؛ بقي قطاع صناعي واحد لم يتضرَّر: شركات أدوات الحرب الحديثة ذات التقنية العالية، التي يصفها آشتون كارتر، وزير الدفاع الأميركي الأسبق في إدارة أوباما، والمسؤول الأبرز عن شراء الأسلحة في وزارة الدفاع، بأنها "سوق مزدهرة".
يُتوقَّع أن يتجاوز مجموع الإنفاق العالمي على أبحاث وصناعة الطائرات بدون طيار 94 مليار دولار، بين عامَيْ 2011-2020، ولن يقتصر الأمر على الولايات المتحدة فقط، وإنما يظهر في اللعبة دول مثل إسرائيل والصين وتركيا على وجه الخصوص، لكن الشركات الأميركية ستبقى مُتصدِّرة في هذا المجال حتى زمن غير قريب على الأرجح.
أحد أكبر الأمثلة على هذا التصدُّر هو شركة "جنرال أتوميكس"، المُصنِّع الأكبر للطائرات العسكرية الشهيرة بدون طيار: البريديتور والريبر، حيث أتى 90% من 661.6 مليون دولار، وهو حجم أرباح الشركة عام 2010، من مبيعاتها للبنتاغون، إذ باعت الشركة، التي يعتقد أنها تمتلك أكبر منشأة مُخصَّصة لصناعة الطائرات بدون طيار في العالم، على مساحة 85 هكتارا في كاليفورنيا، بين عامَيْ 2000- 2010 ما تزيد قيمته على 2.4 مليار دولار من المعدات للجيش الأميركي، معظمها من الطائرات بدون طيار، التي باعت منها أكثر من 430 طائرة بريديتور وريبر ما بين عامَيْ 1994-2010، فضلا عن الاتفاق على نسخ تجريبية قادمة، مثل "البريديتور سي أفينجر".
ليس هذا هو الاستثمار الوحيد للشركة الصغيرة. يفاخر جايمس بلو، مدير "جنرال أتوميكس" التنفيذي، بقوله: "نملك، بالنسبة لحجمنا، رأس مال سياسي أكثر تأثيرا مما يمكن أن تظنوا"، إذ رعت الشركة لسنوات أعضاء بارزين في الكونغرس، وأنفقت ببذخ على حملاتهم الانتخابية وأنشطتها أكثر من أي شركة أخرى، بالإضافة إلى سعيها للخروج من أميركا لدول أخرى، بعد إقرار الحكومة الأميركية في يوليو/تموز 2010 السماح بتصدير بعض نسخ الطائرات بدون طيار. بعد "جنرال أتوميكس" تأتي شركة "أيروفايرنمينت"، التي تضاعفت قيمتها السوقية عشر مرات، من 30 مليون دولار إلى 300 مليون دولار، خلال عقد واحد، قيمة تُمثِّل 85% منها مبيعات الطائرات بدون طيار للحكومة الأميركية، وثبَّتت نفسها بوصفها عملاقة صناعة الطائرات بدون طيار صغيرة الحجم.
لم تخرج كبرى الشركات الدفاعية عن هذا السوق بالطبع، فشركة "رايثيون" على سبيل المثال، أحد أكبر خمسة متعاقدين فيدراليين في الولايات المتحدة، ما زالت تُوفِّر برمجيات الطائرات التي تُمكِّن مشغلي صاروخ نيفادا من الوصول المباشر إلى معطيات استخبارية فعلية، كما عملت في بعض أنواع الصواريخ المُستخدَمة في الدرونز أهمها صواريخ "بايفواي"، منافس صواريخ "هيل فاير" التي تُنتجها عملاق الصناعات الدفاعية العالمي الآخر "لوكهيد مارتن"، والمُستخدَم في طائرات البريديتور، بالإضافة إلى عملاق صناعة الطائرات المدنية والعسكرية "بوينج"، التي دخلت هذا السوق بكل ما لديها كذلك، وحصلت على براءة اختراع لطائرات تقود نفسها بصورة أساسية، وغيرها من الشركات الكبرى والصغرى، والأبحاث الحكومية الخاصة، انطلاقا من كبرى الوكالات المخصصة لذلك: (داربا).
خارج الولايات المتحدة، تظهر إسرائيل بوصفها أكبر مُصدِّر للطائرات بدون طيار في العالم، انطلاقا من كونها "حكومة في حالة حرب دائمة"، إذ بدأت باستعمال الطائرات بدون طيار أثناء غزو لبنان عام 1982، ومن ثم بدأ بيع هذه الطائرات إلى الولايات المتحدة، وصولا إلى استخدام ستة جيوش من جيوش الدول الأعضاء في الناتو للطائرات الإسرائيلية بدون طيار، المعروفة بعلامتها الصفراء المميزة، بعد اندلاع الانتفاضة الثانية وتزايد عمليات الاغتيالات، وحرب غزة عام 2008.