Mar 12, 2022 uavuav

صور| وداع موجع.. الاحتلال يفجع المقعد “فادي” بشقيقه “شادي” مالك قلبه وحياته

جنين – “ے” دوت كوم – تقرير :علي سمودي – منذ سنوات، ترتبط حياة الشاب فادي خالد علي نجم (22 عامًا)، من مخيم جنين، بشقيقه “شادي” (18 عامًا)، فهو وحده من يمتلك مفاتيح قلبه وحياته، والقادر على رسم البسمة على محياه وادخال السعادة لقلبه بعدما سلبه المرض حياته وحوله منذ ولادته لمقعد، بعد أن فقد القدرة على الحركة والنطق، فأتقن لغة الإشارة والعيون التي يخاطب فيها أسرته وخاصة الراعي والسند الأكبر له “شادي” والذي لا يغادر منزله أو يعود إليه دون وداعه وعناقه واحضار الهدايا خاصة الحلوى له، بحكم عمله منذ عامين في معرض للحلويات في مدينة جنين.

الانتظار الصعب ..

بالعادة لا يغمض جفن لفادي باكورة أبناء أسرته اللاجئة والمكونة من 4 أفراد، إضافة لوالديه، حتى يعود شقيقه شادي كل يوم من عمله الذي ينتهي منتصف الليل، حاملاً له الهدايا وكل ما يسره خاصة الحلويات، فيعانقه ويقبله ويضعه في سريره ويطمئن عليه، لكن الصورة والمشهد، اختلف منتصف ليل الاثنين – الثلاثاء الماضي، عندما تجاوزت عقارب الساعة الموعد المحدد الذي كان ينتظر فيه “فادي” قدوم شقيقه “شادي” الذي لم يتأخر عن موعد الحضور لمنزله في أي يوم.

ومع لحظات الانتظار الصعبة بدأ “فادي” يتنقل على طريقته الخاصة بالزحف على قدميه مستعينًا بيديه في أرجاء المنزل، وعينيه تعبران عن تساؤلاته لوالدته عن سبب ذلك، دون أن يتلقى أي إجابة، ولعل حالته كما تعبر والدته، كانت تشير لشعوره الداخلي بحدوث مكروه لشقيقه بسبب علاقتهما الوطيدة والحميمة والمميزة.

هلع وصدمة ..

ووسط لحظات الترقب، كسرت الوالدة الخمسينية ختام نجم، حاجز الصمت بصرخة مدوية هزت أرجاء الحي، عندما أدركت أن حبيب قلبها ومعيلها وأسرتها “شادي” لن يعود للمنزل، فقد وصلها كما يقول نجلها “هادي”، “نبأ إصابة شقيقي برصاص الاحتلال وهو في طريق العودة للمنزل، دون أن نعرف كيف ولماذا أصيب، وعلمنا أنه نقل لمستشفى ابن سينا، مما أثار هلع وخوف الجميع خاصة والدتي التي لم تنتظر، وركضت معنا برعب وقلق إلى المستشفى، فيما لم يتمكن والدي بسبب المرض من مغادرة سريره، وسيطرت عليه الدموع، بينما كان شقيقي فادي في حالة صدمة أمام دموعنا وحالتنا، وسرعان ما بدأ يصرخ بقوة وهو يطرق يديه برأسه ويبكي بعدما وصلته الرسالة وفهم الحقيقة”.

الكمين والمواجهة

في تلك الأثناء، كان المئات من أهالي مخيم جنين، يتدفقون لمستشفيات المدينة في حالة ذعر ورعب، بينما كان أزيز الرصاص يدوي في كل مكان، وسط تضارب الأنباء عن سقوط الشهداء والجرحى، إثر عملية جديدة للاحتلال ووحداته الخاصة.

ووفق روايات شهود العيان، تسللت وحدة خاصة منتصف تلك الليلة، للمخيم وحاصرت منزل عائلة الأسير الشيخ جمال أبو الهيجاء المعتقل منذ سنوات طويلة، وخلال لحظات تمكنت قوة المستعربين من اختطاف نجله الأسير المحرر “عماد” (30 عامًا)، وعندما كانوا يغادرون الموقع تحت جنح الظلام، اكتشفت فرق الرصد والحراسة التابعة لسرايا القدس وكتائب شهداء الأقصى، وجود نشاط لتلك الوحدات، فاندلعت اشتباكات مسلحة عنيفة، وتم مهاجمتها من عدة محاور، وحين تقدم القيادي الميداني لكتيبة جنين التابعة للجهاد الإسلامي عبدالله الحصري صفوف المجموعة التي كانت تشتبك مع القوات الخاصة، تعرض لإطلاق نار من قناص إسرائيلي أصابه بعيار ناري في الصدر، ليتبين لاحقًا أنه وقبل تنفيذ العملية واقتحام المخيم، احتل جنود الاحتلال على المنازل والمباني السكنية المطلة والمؤدية إلى المخيم، وتم وضع فرق من القناصة أطلقت النار على المقاومين حين احتدت الاشتباكات، وهو ما أكده “أبو معاذ” المتحدث باسم “كتيبة جنين”.

ومع سقوط الحصري على مدخل المخيم مضرجًا بدمائه، ارتفعت حدة الاشتباكات لدى المقاومين الذين واصلوا استهدافهم لقوات الاحتلال التي زجت بأكثر من 30 دورية عسكرية للمنطقة، في وقت كان يحاول الاحتلال فيه إعاقة حركة سيارات الإسعاف للوصول، ما دفع الشاب عبادة الغول للتقدم ومساعدة وسحب الحصري لكن رصاص قناصة الاحتلال أصابت الشاب بشكل مباشر بثلاثة أعيرة نارية في الصدر والقدم والكتف، وبعد معركة شرسة نجح الأهالي والاسعاف بسحب المطارد الحصري وكان قد استشهد قبيل نقله إلى المستشفى، في حين نقل الغول للعلاج وخضع لعمليات جراحية معقدة استمرت عدة ساعات وما زالت حالته حرجة.

هكذا أصيب شادي ..

بعد يوم شاق من العمل والتعب، عاد شادي بعد منتصف الليل من جنين، قاصدًا منزله في المخيم، ومعه كما روى زميله في العمل، علبة حلوى لشقيقه فادي، ويقول “عندما كنا في الطريق، علمنا باقتحام الاحتلال للمخيم وسمعنا صوت اطلاق النار، فتوجه شادي عبر طريق فرعي آمن من حي الزهراء في المدينة للعودة لأسرته، وفجأة سمعت بخبر اصابته”.

وبحسب الشاب محمد جمعة نجم، فإن ابن عمه شادي، اتصل به وهو في طريق العودة للمنزل وأبلغه أنه لن يتأخر، لكن فجأة تغيرت طريقة حديثه، وأبلغه أنه يوجد قوة من جيش الاحتلال في المخيم وسيتوجه لطريق أخرى ليلتقي به في الساحة، موضحًا أنه عندما وصل للموقع، وصله نبأ اصابته.

صور| وداع موجع.. الاحتلال يفجع المقعد “فادي” بشقيقه “شادي” مالك قلبه وحياته

وبحسب شهود عيان، فإن شادي كان يسير في الشارع بشكل طبيعي، خاصة وأنه غير مطلوب ولم يكن مسلحًا ولم يشارك في الأحداث، وفجأة شوهد يقع على الأرض بعدما أصيب برصاص القناصة التي كانت تحتل وتتخفى في المنازل، في حين أن طاقم اسعاف الهلال الأحمر، الذي تمكن من نقله لمستشفى ابن سينا، ذكر أن أجزاء من دماغه تطايرت على الأرض.

الرصاصة القاتلة ..

بعد ثلاثة ساعات من اصابته، أعلن الاطباء استشهاد الشاب، وأوضح الدكتور أسامة مراشدة رئيس قسم التخدير والعناية المكثفة في ابن سينا لـ “ے” دوت كوم، أن نجم تعرض للإصابة في الرأس ما أدى إلى تكسير الجمجمة وتضرر في الدماغ وجذعها، وأجريت له عملية جراحية، حيث تمكن الأطباء من السيطرة على النزيف وتحويله مباشرة للعناية المكثفة، لكنه فارق الحياة، بسبب رصاصة قناص إسرائيلي، كما تقول والدته “حكمت عليه بالإعدام، وعلينا بالوجع الأبدي”.

وجع وألم ..

ازدادت حدة الغضب في مخيم جنين والمدينة بعد استشهاد عبد الله وشادي، وخرجت مسيرات حاشدة خلال ساعات الليل توجهت لمنازل عائلتيهما، فكانت صور الوجع والألم التي كانت أشد وأصعب عندما وصل جثمان شادي محمولاً على الأكتاف، بينما ترددت في أرجاء المكان صرخات فادي الذي كان يقفز بكل قوة ليتحدى اعاقته لعله ينهض ويعانق ويودع حبيب قلبه.

أمام مأساوية المشهد، بكى كل من حضر لحظات وجع عائلة نجم بوداع ابنها، وحتى الكاميرات والأقلام والصور لو نطقت لصرخت وانضمت لجموع الصحفيين الذين داهمتهم الدموع، في وقت كانت فيه عيون الوالد المريض الذي لم يقوى على الحركة تذرف الدموع دون توقف، بينما كان يحاول في نفس الوقت تهدئة ثورة الألم التي اجتاحت ابنه فادي المريض والمقعد دون أن تتوقف صرخات غضبه، ولسان حاله يردد كما يقول شقيقه هادي “أين العدالة وحقوق الإنسان؟ .. شادي كل حياتي .. فبأي حق قتلتم سندي وروحي وعمري وأخي وأبي وعالمي؟”.

لم تنتهي الصورة فالوالد انفجر باكيًا في لحظات الوداع الأخيرة وهو يمسح وجه ورأس شادي الذي تحمل عنه المسؤولية منذ مرضه، فعانقه بيد، وبالأخرى بنجله المقعد “فادي”، وهو يردد “يا حبييي يا فادي .. راح شادي مين بده يحملك ويرعاك ويفرحك؟”، أما الوالدة ختام، وبعدما شاركت النساء الأهازيج، سرعان ما انهارت وامسكت بالجثمان وهو يغادر منزلها لآخر مرة، وصرخت بكلماتها العفوية البسيطة “استحفلكم بالله، خليه عندي، ما توخدوه مني، ما تروح يا شادي .. مين النا بعدك”.

دموع لن تجف..

ومنذ تشييع شادي، لم تجف دموع والده الذي تعرض لانتكاسات متتالية في بيت العزاء ونقل للمشفى، بينما جرح فادي ما زال ينزف، ويرى شقيقه الأصغر هادي أنه “لن يشفى أبدًا، ولن نعوضه جميعًا عنه، ولن يسد أحدًا مكانه بالنسبة لنا جميعًا، فقد كان حنون وصاحب قلب كبير وطيب، يهتم بنا جميعًا ولم يقصر معنا لحظة”.

ويضيف هادي الذي لازمته الدموع طوال الوقت “شادي يعتبر والدنا الثاني وأكثر من أخ وصديق، دومًا كان يوجهني ويرعاني، وهو بار بوالدينا ومخلص ووفي وشهم وشجاع”.

من حياته ..

يعتبر شادي، باكورة أبناء أسرته، تعلم في مدارس وكالة الغوث في مخيم جنين حتى الصف الثامن، وأرغمته ظروف الحياة الصعبة التي تعيشها أسرته بعد مرض والده الذي لم يعد قادرًا على العمل فتحمل المسؤولية، ويقول ابن عمه محمد “ضحى بمستقبله ليعيل أسرته، كافح وعمل في عدة مهن بوفاء ومسؤولية حتى استقر منذ عامين بالعمل في محل للحلويات، وتميز بعلاقة وطيدة مع والديه، وهمه الأول والأخير أسرته غمرها بحنانه ومحبته، وكان معطاءً وخدوم وصاحب واجب لدرجة كبيرة، ويساعد الناس ويغيث المحتاج حتى حظي بمحبة وتقدير الجميع”.

شادي وفادي ..

طوال السنوات الماضية، عاش شادي يرعى شقيقه فادي كونه مريض ويعاني من شلل رباعي، حيث اعتاد على خدمته، وتقول والدته “لم يقصر معه لحظة، قبل خروجه للعمل، يوقظه ويجهزه ويفطره ويوفر له احتياجاته، يرعاه ويحمله ويرافقه للتنزه ويكرس يوم اجازته لإسعاده، وكل يوم يحضر له الهدايا، ولم يكن ينام فادي وينتظر شقيقه ليلاً ليفرح بحصوله على الحلوى التي يحبها ويوزع جزء منها في اليوم التالي على أصدقاءه .. بعد رحيله كلنا نتألم وخاصة فادي ونفتقده ونشعر بفراغ كبير .. لا تفارقنا صوره ومواقفه الجميلة .. بدأت منذ فترة بالتجهيز لزواجه، واتفقت مع والده على بناء غرفة له فوق منزلنا، لكن رصاص الاحتلال الغادر سرقه منا وحكم عليه بالاعدام وحرمنا فرحة العمر”.

ولد من جديد ..

تزامن استشهاد شادي ، مع ذكرى استشهاد ابن عمه خالد جمال نجم، ويقول محمد “الاحتلال يستخدم كل الطرق لعقاب شعبنا والانتقام منا وقتلنا بدم بارد، في نفس اليوم الذي استشهد فيه شادي، كان ابن عمي خالد قتل برصاص الاحتلال خلال اقتحامه المخيم في 1-3-2002، وبعد ثلاثة أيام فقط، استشهدت زوجة عمه أم خالد، ورغم هذا الألم، ولد الشهيد شادي من جديد، فقبل يوم من جريمة الاحتلال، كانت شقيقته أنجبت طفلها الأول، واحضر شادي الحلوى ووزعها ابتهاجًا بذلك، لكن لحظات الفرح لم تكتمل ونغصها الاحتلال برصاصه الغادر، فأُطلق اسمه على المولود الجديد ليبقى حاضرًا وحيًا، ولنقول للاحتلال: إن شادي سيبقى حيًا في قلوبنا للأبد”.