Mar 12, 2023 uavuav

الحكومة والمجتمع وفتيات تيك توك.. من يفوز بالصراع حول قيم الأسرة المصرية؟

في عام 2018، أصدرت السُّلطة التشريعية في مصر مشروع قانون رقم 175 لسنة 2018 تحت عنوان قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات. لم يلفت خروج القانون الجديد ذي الفصول التسعة والمواد الأربع والخمسين أي انتباه حينها، ولم يُصاحب إصدار التشريعات الجديدة أي جدل إلا في حدود دوائر ضيقة، وكان مُتعلِّقا بأمور فنية وشكلية بين المحاكم والدوائر القانونية المختصة؛ حتى أتى عام 2020 وأصبح مضمون القانون ومواده أحد أهم المواضيع والسجالات بين قطاعات مُعتبَرة في المجتمع المصري تنشط في المجال العام والفضاء الافتراضي.

ففي منتصف العام الماضي 2020، وتحت ضغط وبلاغات علنية من عدد من المؤثرين على مواقع التواصل، بدأت السُّلطات المصرية إلقاء القبض على عدد من الفتيات المؤثرات على مواقع التواصل، ووجَّهت لهن عددا من التهم أهمها الاعتداء على "قيم الأسرة المصرية" طبقا للمادة الخامسة والعشرين من نص القانون الجديد، التي تنص بوضوح على عقاب أي مواطن مصري يعتدي على أيٍّ من المبادئ أو القيم الأسرية في المجتمع المصري. (1)

منذ ذلك التاريخ ثار نقاش صاخب ومتواصل حتى اللحظة حول طبيعة القانون، والمادة المثيرة للجدل المُتعلِّقة بما سمَّته الجهة التشريعية قيم الأسرة المصرية. وخرجت بدورها العديد من المُنظمات الحقوقية وعدد واسع من الدوائر التقدمية والليبرالية في مصر بحملات وبيانات تُطالِب السُّلطات المصرية والنيابة العامة بالتوقُّف عن فرض تصوُّراتها الأخلاقية الخاصة وغير القانونية عن القيم الأسرية على المجتمع، والانتباه والاضطلاع بمسؤولياتها في حماية المجتمع من التعذيب والاختفاء القسري والقتل خارج إطار القانون الذي تمارسه السلطة التنفيذية بحق المواطنين.

توالت اتهامات النيابة المصرية لعدد من المؤثرات على مواقع التواصل، وهو الأمر الذي امتد لاحقا لبعض العاملين في المجال الفني، بالاعتداء على قيم الأسرة المصرية، خاصة مع صدور حكم المحكمة الاقتصادية بالقاهرة بمعاقبة الفتيات بالحبس لمدة سنتين، وتغريم كل منهن 300 ألف جنيه بالتهمة ذاتها: التعدي على "قيم ومبادئ الأسرة المصرية". (1) على جانب آخر، علَّق العديد من المحامين والجمعيات الحقوقية المصرية قائلين إن هذا الحكم يُعَدُّ سابقة قضائية ذات تداعيات خطيرة، خاصة بالنظر لما قد يصدر من أحكام مستقبلا تطول أي مواطن مصري تحت ذريعة فضفاضة مثل انتهاك قيم الأسرة. (2)

يُثير هذا النقاش عددا من الأسئلة المهمة؛ أي أسرة مصرية تلك التي تدَّعي السُّلطة المصرية حمايتها؟ وهل هذه القيم معروفة ومُحدَّدة ومُعلَنة ويمكن القياس عليها؟ والأهم من ذلك هل فكرة وجود "قيم الأسرة" بوصفها مفهوما قانونيا يُهدِّد حرية الأفراد والمواطنين أمر جيد أم له تداعيات سيئة وخطيرة على حرية الأفراد؟ بمعنى آخر؛ هل الأولوية لأي نظام سياسي وتشريعي هي صيانة حرية الفرد وأمنه وحقوقه أيًّا كانت خلفيته الثقافية والسياسية باعتبارها أساسا لمبدأ المواطنة أم فرض تصوُّر أخلاقي بعينه عن القيم والأسرة وإجبار الجميع على الانصياع لهذا التصوُّر؟

عقب صدور الاتهامات وإلقاء القبض على بعض المؤثرات فيما عُرف إعلاميا بقضية فتيات التيك توك، انتقل الجدل القانوني والجنائي إلى الحيز السياسي والثقافي، وشنَّ عدد واسع من النشطاء التقدميين حملة حقوقية ودعائية تحت وسم "بعد إذن الأسرة المصرية" للمطالبة بالإفراج عن الفتيات، حيث وصفوا قانون 175 بالمَعيب، بدعوى أنه يفتح الباب لمزيد من تقييد حرية التعبير وإلغاء الحق في الاختلاف، ويسمح بالزج بالمواطنين في السجون باتهامات فضفاضة ليس لها تعريف قانوني متماسك.

الحجة الأساسية هنا أن "المُشرِّع يدرك استحالة وضع تعريف قانوني جامع مانع لقيم تتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان، في مجتمع شديد التنوُّع مُتعدِّد الأعراق والأديان والطوائف والثقافات، لذلك أبقى على هذه المصطلحات الفضفاضة التي تفتح الباب أمام التأويلات. ومن ثم على النيابة العامة ألا تغتصب لنفسها بالمخالفة للقانون والدستور سلطة فرض لائحة قيم أسرية تتوهَّم أنها قابلة للتعميم على مجتمعات متنوعة ريفية وحضرية وبدوية ونوبية، وتستلهم قيم أديان وعقائد مختلفة وثقافات مُتعدِّدة". (3)

هنا تحديدا يظهر المنطق الأساسي للحملة الحقوقية التقدمية في مواجهة القانون الجديد، وهو أن قانون القيم الأسرية جزء من النزوع الشمولي الاستبدادي للنظام الحالي. وطبقا لتلك النظرة فهو يُعَدُّ قانونا مكرسا لتجريم الاختلاف وتقييد الحريات العامة والخاصة، وحسب تلك الرؤية، فإن المشكلة الأهم هي تعريف الأسرة بوصفها وحدة قانونية أولية وشخصا اعتباريا له كيان قانوني مستقل، ما يُعَدُّ عوارا تشريعيا فادحا، ويساهم في بناء نظام سياسي واجتماعي مُتزمِّت باسم الأخلاق والقيم التي تملك السُّلطة السياسية حصرا تحديدها وتصنيفها.

يُلخِّص الفيلسوف السياسي الأميركي "فرانسيس فوكوياما" جوهر الفكرة التقدمية الليبرالية بأنها تستند بشكل رئيس إلى مقولة إن الفرد يوجد أساسا في موقع مستقل عن المجتمع، حيث يمتلك الفرد وجودا أصيلا وعقلا مستقلا وفطرة تواقة إلى العدل والسعادة وحسا أخلاقيا سليما يُمَكِّنه من التمتع بحريته وأصالته الوجودية، وإن التعاسة الإنسانية تبدأ من قمع الفرد لصالح كيانات جماعية أعلى، سواء كانت الدولة أو الكنيسة أو المجتمع أو الأسرة. ومن هذه النظرة خرجت الرؤية الحديثة الليبرالية للمواطنة، حيث كل مواطن مستقل وحر أمام جهاز قانوني محايد دون وصاية أخلاقية من أحد. (4)

يؤكد "تشارلز تايلور"، عالم الاجتماع الكندي، في كتابه "تكوُّن الهوية الحديثة" أن "جزءا مهما من التحوُّل الذاتي الهائل للثقافة الحديثة كان نحو شكل جديد من الجوانية، صرنا نفكر فيه بأنفسنا ككائنات ذوات أعماق داخلية خيِّرة وتحوي إمكانات غير محدودة علينا سبر أغوارها". وبحسب فوكوياما، تأسَّست الحداثة السياسية الليبرالية على هذا الأساس بالذات، حيث بات يُنظر "إلى المجتمع الليبرالي التقدمي ليس فقط على أنه نظام سياسي يحمي بعض الحقوق الفردية، بل ويُشجِّع بشكل فاعل التحقُّق الكامل لكل الإمكانات الداخلية للذات". (5) ويُكمل فوكوياما مؤكِّدا أن المسيرة التقدمية الفردانية لم تقف عند هذا الحد، بل نُظِر إلى كل مؤسسات المجتمع وعلى رأسها مؤسسة الأسرة، خاصة على يد مُنظِّري اليسار الجديد، بوصفها مؤسسات قمعية واستلابية، وأن سعادة الإنسان تعتمد على تحريره من القيود الاجتماعية الاصطناعية أو من أي وسط اجتماعي قمعي عموما.

في بيانها بشأن القانون المصري، أوردت الجبهة المصرية لحقوق الإنسان عبارة شديدة الدلالة، حيث أشارت إلى أنه "لا أحد يعرف ما قيم تلك الأسرة المصرية التي اعتدت عليها النساء التسع، حيث تعامل المُشرِّع على أن المئة مليون مصري عبارة عن جيش عسكري واحد يخضع للمعايير نفسها، ويتبنَّى القيم نفسها، ويلتزم بالعادات نفسها. ونتيجة لذلك استخدمت النيابة العامة مفردات مُبهَمة وغير مُحدَّدة لِتُوسِّع من صلاحيتها في توجيه الاتهام والقبض على مَن لا يخضع لمعاييرها، مُنتهِكة بذلك الحقوق التي يكفلها الدستور من حرية الرأي والتعبير". ويكشف ذلك عن رؤيتين مُتضادتين في التعاطي مع القانون الجديد والمحاكمات والاعتقالات المترتبة عليه، أولاهما الرؤية المحافظة للسلطة السياسية في مصر، التي سنَّت القوانين واعتقلت الفتيات الصغيرات، وثانيهما الرؤية التقدمية والحقوقية المناوئة لها التي تُنادي بسياسة فردانية تماما دون أي مرجعية قانونية سوى حرية وحقوق الفرد نفسه. والسؤال هنا؛ هل كل سياسة عامة تستند إلى قيم الأسرة سياسة قمعية؟ وهل من الممكن أن توجد جماعة سياسية ما دون قيم أسرة فعلا؟

 الحكومة والمجتمع وفتيات تيك توك.. من يفوز بالصراع حول قيم الأسرة المصرية؟

بحسب الفيلسوف السياسي "كارل شميت"، لا توجد سياسة فردانية، ولكن ثمة عداء للسياسة باسم الفردانية. ومن موقع أيديولوجي مختلف تماما يتفق الأكاديمي الأميركي "جورج ليكوف"، ويُفصِّل مقولة شميت تفصيلا أكبر، فيقول إن التقدميين لا يتحرَّكون في حملاتهم وخطابهم السياسي أو الحقوقي من منطق فرداني خالص، ولكن من منظور اجتماعي وأسري مختلف عن الرؤية المحافظة للسياسة والدولة. فالعلاقة التي يتخيلها الليبراليون والتقدميون بين الدولة والأفراد نابعة من تَمثُّل علاقات اجتماعية وأسرية مختلفة بين الأب وأبنائه، أي إن الفريقين في تَمثُّلهم السياسة العامة يتخيلون أُسرا ونظما تربوية مختلفة قبل إسقاطها على العلاقة بين الحاكم والمحكومين. (6) (7)

في بيان وقَّعته عدد من المنظمات الحقوقية في مصر، طالبت المنظمات الموقَّعة النيابة العامة المصرية حماية المجتمع من التعذيب والاختفاء والقتل بدلا من ملاحقة الفتيات الصغيرات على مواقع التواصل، وثمة إشارة مهمة هنا من جورج ليكوف إلى أن الحركات الديمقراطية والليبرالية طوَّرت خطاباتها ومؤسساتها على أساس يهدف إلى منع السُّلطة السياسية من العمل بوصفها أبا صارما مُتسلِّطا. من هذا المنظور، بحسب ليكوف، يُمكن أن يُرى الفصل بين السُّلطات والنظام الانتخابي بوصفه محاولة لعزل السياسة عن أخلاقية الأب الصارم القاسي، لكن ما نوع الأب المضاد الذي تحاول الحركة الحقوقية المعاصرة أن تُجسِّده في السياسة؟

في كتابه "السياسة الأخلاقية.. كيف يُفكر الليبراليون والمحافظون في السياسة؟"، يذهب ليكوف إلى أن أخلاقيات الأسرة ليست غائبة أبدا عن السياسة، بل على العكس، أغلب الأيديولوجيات المتصارعة في عالمنا اليوم هي أيديولوجيات قائمة على خطوط أنثروبولوجية نابعة من قيم أسرية أكثر من كونها أيديولوجيات عقلانية. وينطبق هذا على الفكر التقدمي والليبرالي بدرجة انطباقه نفسها على الفكر المحافظ والتقليدي. لقد اعتدنا دوما اهتمام التقدميين بمبادئ النظام القضائي المستقل أو منع المحاكمات العسكرية للمدنيين، أو الحكم المدني للقوات المسلحة، وهذه المفاهيم في جوهرها مفاهيم أخلاقية لا إستراتيجية عقلانية للحكم الكفء فحسب. وقد أتت تلك المفاهيم إلى المجال السياسي بواسطة نسق أخلاقي اجتماعي مختلف، يسميه ليكوف نموذج الأب الراعي أو الأسرة الراعية.

الأسرة الراعية هي نموذج قائم على بنية علاقات أسرية مختلفة عن نموذج الصرامة والأبوية المحافظة، حيث ينشأ الأطفال داخل هذا النموذج التربوي في علاقة إيجابية مع الآخرين والعالم، ومن ثم يُصبح الأطفال في مراحل نضجهم مسؤولين اجتماعيا عن أنفسهم وعمَّن حولهم، وعلى الأسرة الراعية أن تعتني بالأطفال وتساعدهم على تنمية مهاراتهم واكتشاف ذواتهم، وتسمح لهم باستكشاف المدى العريض للأفكار والخيارات والتجارب التي يطرحها عليهم العالم، لا فرض تصوُّراتها وتجاربها عليهم. (8)

بهذه الكيفية ينمو الأطفال ليصبحوا على صورة المواطنين التي يريد التقدميون أو الليبراليون أن يكون المجتمع عليها؛ مواطنون يعتنون بأنفسهم، ويتضامنون مع مَن حولهم، ويُقبلون على الحياة، وعليهم في المقابل أن يُطوِّروا إمكانياتهم باستمرار وأن يُسخِّروها في خدمة المجتمع، والأهم أن يُصبحوا خلال كل ذلك عقولا مُبدعة مُستقلة.

التقدميون والليبراليون على مستوى العالم، وفي مصر بطبيعة الحال، يطبقون نموذج الأسرة الراعية، فهم يرون أن دور الحكومة الطبيعي هو دور ذلك الأب الراعي. بعبارة أخرى، يكمن دور الحكومة الأصيل في فتح المجال وتوفير الإمكانيات للمواطنين، وخاصة الشباب والمراهقين، لاستكشاف العالم وبناء تجاربهم وخبراتهم الخاصة، وتوفير الفرص الخاصة بتطوير الذات، وعلى السُّلطة القضائية بالأخص حماية المواطنين من عسف السُّلطة التنفيذية والأمنية. أما الدولة التي تفرض على مواطنيها كودا أخلاقيا معينا وتُحاكمهم على تصرفاتهم اليومية على مواقع التواصل أو في حياتهم الخاصة، ولا تحمي النساء من التحرش والتمييز السلبي المُمَنهج ضدهم، بل تُطاردهم وتُشهِّر بهم، فهي دولة رجعية أبوية أو شديدة المحافظة على أقل تقدير.

ما يخلُص إليه جورج ليكوف هو أن تزايد النزعة الحقوقية داخل التيارات التقدمية والحقوقية مؤشر واضح على اعتماد تلك التيارات على سياسة مبنية على قيم الأسرة أيضا، لكنها أسرة مختلفة لا أكثر. وتأخذ "شانتال موف"، الأكاديمية والمُنظِّرة السياسية، تلك الحُجة خطوة أبعد عبر مشروعها الفكري والسياسي كله. ففي كتابها "في مفهوم السياسي"، تُلقي المفكرة البلجيكية الضوء على أن تزايد النزعة الحقوقية داخل التيارات التقدمية يُخفي خلفه فهما غير ملائم للسياسة، وهي تتفق مع ليكوف في أنه رغم الادعاءات العقلانية والفردانية للتيار الليبرالي واليساري، فإن تلك النزعة الحقوقية تنطلق من سياسات أسرية تستجدي الحقوق والحماية من نموذج الوالد الراعي العطوف، الذي هو السُّلطة السياسية في هذه الحالة.

في هذا السياق تتفق شانتال أنه لا توجد سياسة بدون قيم أسرة ما، إذ تنطلق الرؤية المحافظة للسياسة من نموذج الأب الصارم أو الأسرة الصارمة، حيث يتحمَّل الأب/الحاكم مسؤولية وضع السياسة الأسرية الشاملة، وهو يُعلِّم الأطفال الصواب من الخطأ من خلال وضع قواعد لسلوكهم وإجبارهم عليها بواسطة الثواب والعقاب، كي يصبحوا أطفالا/مواطنين منضبطين ذاتيا في عالم صعب وخطر ولا سبيل إلى إصلاحه جذريا.

يظهر حضور هذا النموذج الأسري السياسي في الكيفية التي تحرَّكت بها قضية فتيات التيك توك، حيث أوردت تقارير حقوقية عددا من الإجراءات المخالفة للمعايير الفنية المُتعلِّقة بالضبط والإحضار، يتجلَّى فيها النموذج الأبوي العقابي الذي يُجيز القفز على حقوق المتهمين في سبيل عقابهم والتنكيل بهم. على سبيل المثال؛ تنص المادة 127 من قانون الإجراءات الجنائية على الضوابط والشروط اللازم توافرها في محضر الضبط لصحته (يجب أن يشمل كل أمر على اسم المتهم ولقبه وصناعته ومحل إقامته والتهمة المنسوبة إليه وتاريخ الأمر وإمضاء القاضي والختم الرسمي). وكما هو مُتوقَّع، لم تتوفر هذه الأمور في محضر ضبط وإحضار "حنين حسام" المتهمة في تلك القضية، فقد غاب عن المحضر أي معلومات عن الشخص المطلوب ضبطه وإحضاره سوى الواقعة باختصار والاسم الثنائي لها.

بخلاف ذلك، فإن قانون الإجراءات الجنائية المنظم لصلاحيات مأمور الضبط القضائي ومهامه ودوره لم يعطِ له صلاحيات مواجهة المتهم بأيٍّ من المضبوطات والأدلة، بل يلزمه بإخطار النيابة العامة بذلك، وعلى النيابة العامة إذا رأت ضرورة ذلك الإجراء أن ترفع الأمر إلى القاضي الجزئي. وفي حالة الفتيات المقبوض عليهن، خالف مأمور الضبط قانون الإجراءات الجنائية، وقرَّر من تلقاء نفسه أن يفحص هواتف المتهمات الشخصية وأجهزة الحاسوب الخاصة بهن ومواجهتهن بما فيها؛ ما يُعَدُّ مخالفة للقانون، وهو إجراء يفتح الباب في التشكيك بمدى سلامة الأدلة.

لم يتوقَّف الأمر هنا، بل بحسب التقارير الصادرة حول القضية، تحايلت النيابة العامة أيضا على نص المادة 167 من قانون الإجراءات الجنائية، الذي ينص على أن "تكون القرارات الصادرة من غرفة المشورة في جميع الأحوال نهائية"، وهو ما يعني أنه لا يجوز الاستئناف على استئناف المتهمة. لكن النيابة قرَّرت إعادة حبس المتهمة بعد إخلاء سبيلها بكفالة مالية، وهو ما يوحي بالرغبة في العقاب والتأديب عند السلطة القضائية. وبحسب ما يظهر في بيانات النائب العام التي تزامنت مع القضية، تقمَّصت النيابة نموذج الأب الصارم في تلك القضية، مُتجاهلةً مبدأ براءة المتهم حتى ثبوت إدانته، ففرضت تصوُّراتها عمَّا يجب وما لا يجب أن يكون، ومن ثمَّ ظهر بوضوح عدم حياديتها بوصفها مؤسسة قانونية عقلانية ومحايدة.

بالعودة إلى شانتال موف، فهي ترى أن تزايد النزعة الحقوقية يُمثِّل هروبا أو تجاوزا للسياسة بوصفها صراعا ماديا ورمزيا على مستويات مختلفة نحو توظيف مسألة الحقوق والحريات والمواطنة بوصفها قضية ضغط متبادل وتوازن قوى داخل النظام، من أجل ترسيخ تلك الحقوق والحريات بدلا من استجدائها من السُّلطة الأبوية المحافظة. (9)

لذلك، في حين ترتبط معظم الحركات الديمقراطية والتقدمية بمفهوم "قتل الأب" رمزيا، ومحاولة بناء ذوات سياسية مستقلة عن الهيمنة السلطوية، فإن طلب التمكين من الحقوق، من مؤسسات اتُّهمت دائما بقيامها على الانتهاكات والتنكيل والتأديب، هو طلب متناقض منطقيا ما لم يُعَد بناء هذه المؤسسات ديمقراطيا وسياسيا من جديد؛ بما يجعلها تمنح حقوقا سياسية واجتماعية فعلية، وهو ما يتطلَّب نشأة ذاتية سياسية جديدة، وأُطر عمل أوسع، وخطابات سياسية مختلفة عن استدعاء صورة الأب الراعي في الأيديولوجية الحقوقية المعاصرة.

_________________________________________________________________________المصادر:

  1. التسلسل الزمني للقبض على فتيات Tik Tok
  2. فتيات "تيك-توك" في مصر: حاكموا "قيم الأسرة"!، موقع السفير
  3. مبادئ وقيم الأسرة المصرية: قيد جديد على حرية التعبير
  4. الهوية.. مطلب الكرامة وسياسات الاستياء، فرانسيس فوكوياما، ترجمة مجاب الإمام، منتدى العلاقات العربية والدولية
  5. منابع الذات.. تكوُّن الهوية الحديثة، تشارلز تايلور، ترجمة حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة
  6. مفهوم السياسي، كارل شميت، ترجمة سومر ألمير، مركز مدارات للأبحاث والنشر
  7. السياسة الأخلاقية.. كيف يفكر الليبراليون والمحافظون؟، ترجمة طارق النعمان، المركز القومي للترجمة
  8. المصدر السابق
  9. On the Political, Chantal Mouffe