تاريخ السجادة الحمراء.. كيف ظهر ممشى الملوك وساحة عروض الأزياء؟
لا تمر الفعاليات المهمة بدون المرور على السجادة الحمراء، تفترش الأرض كأنها منسية هناك منذ أعوام، لا يتبدّل لونها، ولا تكفّ الأعين عن البحث عنها، محاطة دوما بالمصوّرين والكاميرات التي تلتقط صور المارّين من هنا، ولا مرور هنا سوى للفنانين والمشاهير من رجال المجتمع، تهبهم السجادة شعورا ملكيا بالفخامة والأبهة، هم بالطبع مشاهير بما يكفي، لكن السجادة الحمراء تُضفي على مرورهم وهجا خاصا. يبدو الحديث عن سجادة حمراء أمرا عاديا، لكنّ تاريخا طويلا يختبئ خلف هذا الممر الأحمر الذي يبدو لوهلة ممتدا إلى اللا نهائية.
بساط أجاممنون"فلتفرشوا على مدى الطريق
بساطنا للعاهل العريق
لتفرشوا البساط أرجوانا
فمجده قد بهر الزمانا"
يستعرض شاعر التراجيديا اليونانية إسخيليوس في مسرحيته "مأساة أجاممنون" مراسم استقبال كليتمنسترا لزوجها المحارب أجاممنون بعد معركته في حرب طروادة، تقف الزوجة بعيون تفيض دمعا وبقلب ينتفض من رايات النصر، تدعو وصيفاتها لفرش البساط الأرجواني ليمر عليه أجاممنون كما الملوك، لكنه يرفض كل هذه الأبهة، يخبرها أن لهذا البساط هيبة لا تليق إلا بالآلهة الكريمة ولا يجوز السير عليه إلا كالأرباب، البساط يمنح السائر عليه رهبة وأجاممنون يريد أن يحمل تاج المجد في خشوع[1].
بين الشعور بالفخامة وزهو اللون الأحمر ارتبط البساط بفعل التشريف والترحيب، كان هذا قبل ألفي عام، تحديدا في 458 قبل الميلاد، ورغم أن ظهوره جاء في إطار إبداعي في قلب أحداث مسرحية أجاممنون، فإنه افترش لنفسه مكانا في الواقع وأضحى عنصرا لا يغيب عن مشهد دخول الرؤساء والساسة والمشاهير من الفنانين.
كأنها انتقلت بيد السحر. بعد ظهورها الأول على مسرح إسخيليوس في عصر ما قبل الميلاد، انتقلت السجادة الحمراء إلى الساحة الأمامية لحفل العرض الأول للفيلم الأميركي روبن هود عام 1922 في المسرح المصري بهوليوود. نظّم الحفل "سيدني باتريك جرومان"، واحد من أشهر منظمي عروض الأفلام في هوليوود آنذاك، وكان أبطال الفيلم دوجلاس فيربانكس وإنيد بينيت وصُنّاع الفيلم أصحاب المرور الأول على السجادة الحمراء، وعلى جانبي الممشى اصطف الجمهور وحضور العرض لمراقبة أبطال الفيلم لحظة مرورهم كالملوك[2].
في حديث "ميدان" مع الكاتبة نورا ناجي عن نظرتها للسجادة الحمراء، وباعتبارها مديرة تحرير مجلة نسائية وشغوفة بمتابعة خطوط الأزياء خاصة في الفعاليات الفنية المهمة، تقول نورا: "السجادة الحمراء ليست مجرد عرض أزياء، بل إن تاريخها يرتبط بسير الأرباب والملوك كما تروي أحداث مسرحية أجاممنون، ثم امتد ظهورها التاريخي عبر مسيرة لم تقتصر فقط على الفن، فكان وجودها أيضا قرين المناسبات المهمة مثل افتتاح مشروع، محطة سكة حديد، أو استقبال الرؤساء والملوك، أو حتى تكريم في مؤسسة صغيرة، حينها تفرش سجادة حمراء لتحديد مسار الأشخاص المكرمين أو المهمين، والسجادة تمنحهم الشعور بالملكية والفخامة وأنهم في هذا اليوم مميزون بشكل أو بآخر".
فخامة الأحمريكتسب اللون الأحمر فخامة ورفعة تنبع من الجذور التي استُخلص منها. في القرن السادس عشر استُخلص اللون القرمزي من صباغ الدودة القرمزية أو كما تُعرف بـ"الكارمين"، وكان موطنها الأصلي إمبراطورية الآزتيك* في مرتفعات أميركا الوسطى والجنوبية، وبطرق خاصة يتم تخفيفها لتُستخدم في صبغ المنسوجات الاحتفالية. تحوّلت المنسوجات المصبوغة بالدودة القرمزية إلى تجارة تتهافت عليها البلدان في أوروبا وآسيا، بل تحوّلت إلى تجارة احتكارية ومصدر لجني الثروات. كانت المنسوجات الراقية من علامات الأبهة، والألوان الزاهية تقتصر على الصفوة، واللون الأحمر كان ولا يزال ملكيا بجدارة[3].
بدأت المنسوجات اليدوية تلوح بقوة في أواخر أربعينيات القرن التاسع عشر، ومع تطوير الأصباغ الحمراء الاصطناعية في سبعينيات القرن التاسع عشر أصبح السجاد الأحمر أكثر سهولة في تصنيعه من أي وقت مضى. وبحلول عام 1902، كان بإمكان أي شخص يحمل تكلفة تذكرة في محطة نيويورك للسكك الحديدية المركزية أن يسير على السجادة الحمراء المثبتة في محطة جراند سنترال على متن القطار الفاخر، ومن هنا جاءت عبارة "معاملة السجادة الحمراء". تمر الأعوام لتصبح هوليوود مرادفا للسجادة الحمراء في العقد الثاني من القرن العشرين[4].
الفائز يمر من هنايستدعي الحديث عن "السجادة الحمراء" التفكير في حفل جوائز الأوسكار، وهذا يُعيدنا إلى حفل الأوسكار الثالث والثلاثين عام 1961 الذي ظهرت فيه لأول مرة السجادة الحمراء، وتسيّدت الساحة الخارجية لقاعة عرض سانتا مونيكا بولاية كاليفورنيا، وأصبحت جزءا رئيسا من مراسم الحفل حتى الآن[5]. نجحت السجادة في إضفاء وهج جديد لمرور الفنانين وصناع الأفلام في طريقهم لدخول حفل الأوسكار، وبمرور الأعوام اتسعت المساحة التي تشغلها السجادة لتصل إلى ما يزيد على 16 ألف قدم، يستغرق تجهيزها على الأرض أياما، وفي النهاية تنتزع من مكانها وتُلقى في المهملات ولا تُستخدم مرة أخرى[6].
لم تستحدث السجادة الحمراء من حفلات الأوسكار ومهرجانات السينما احتفاليات موازية لعروض الأزياء، لكنها أفردت مساحة خاصة تُمكّننا من النظر بتفحص أكثر لإطلالات الفنانين في مثل هذه الاحتفالات السينمائية المهمة. في استكمال حديث "ميدان" مع الكاتبة نورا ناجي تقول: "يمر الضيوف في الفعاليات الفنية الكبرى على السجادة الحمراء في طريقهم لقاعة العرض، أصبح هذا جزءا من تنظيم الفعالية، وبالتوازي يُشكّل مساحة تسمح للصحافة بتغطية الحدث، والتقاط الصور للفنانين أثناء مرورهم على السجادة الحمراء، ولأن حضور الأضواء والكاميرات ممتد على امتداد السجادة فإن كل فنان يهتم بإطلالته، وبالصور ومقاطع الفيديو التي ستُلتقط له وستُخلّدها الصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي، ومن هنا ازداد الأمر ضراوة وأصبح لهذا المرور حسابات كثيرة".
غواية الموضةتسليط الضوء على إطلالات الفنانين يجذبنا لإدامة النظر إلى ملابسهم، وهو ما أصبح يلفت انتباه الجميع، ليصبح السؤال الأول الذي يُطرح على أي فنانة: "من أين ترتدين فستانك الليلة؟"، وتحوّل الأمر شيئا فشيئا إلى مساحة جديدة للترويج للموضة. تستطرد نورا ناجي في حديثها مع "ميدان" عن التطورات التي استجدّت على طقوس السجادة الحمراء، تقول: "تُقيم العديد من المهرجانات السينمائية مثل كان وفينيسيا أكشاكا أو غرفا خاصة تُؤجَّر من قِبل مصممي الأزياء بمبالغ طائلة بغرض عرض تصميماتهم على الفنانات ليرتدينها في طريقهم للحفل وأثناء مرورهن على السجادة الحمراء، هذه صفقات مجانية لارتداء فستان لليلة واحدة بغرض الترويج لأزياء هؤلاء المصممين، وهذا يُفسِّر انتشار أسماء مصممين بأعينهم في المهرجانات العالمية مثل إيلي صعب وزهير مراد. لا يقف الأمر على الأزياء فحسب، بل يدخل فيها أيضا ماركات المجوهرات العالمية مثل شوبارد وكارتييه".
تشترك السجادة الحمراء الآن في الدائرة نفسها بين نجوم الفن وبين عروض الأزياء، الأمر ليس بالرفاهية التي يتخيّلها البعض، بل إنها جزء من ثقافة صناعة النجوم، على النجم أن يُثير الإعجاب دوما، أن يؤكد بمروه أنه هنا، مرئي، يخبر الكاميرات بإيماءات صامتة: "أهلا، انظروا إليّ، هل ترون كم أنا جذاب وأنيق هذه الليلة؟". النجوم والمشاهير تركيبة مُصنّعة، وإذا كانت الموضة تُجمّل ملابسنا فإن صناعة النجم تُجمّل كل سنتيمتر فيه، جماله هو جزء من أصالته، والسجادة الحمراء تُقدّم له فرصة ذهبية ليخبر الجميع أنه ما زال قادرا على جذب أنظارنا إليه، بالبساطة مرة، وبإثارة الجدل مرة أخرى. لم تعد الموضة مجرد ثوب يفيض بالأبهة، بل إنها تُعبّر عن شيء، عن الهوية والصورة المتفردة التي يختارها النجم ليتألّق بين أقرانه[7].
في رُقعة موازية، بعيدا عن مهرجانات السينما، تُقام حفلات بأكملها هي فقط عرض سجادة حمراء، وأشهرها هو حفل الميت جالا[8] (Met Gala)، حدّثتنا نورا ناجي عن هذه الاحتفالية أكثر، ووضحت لـ "ميدان": "يقام حفل الميت جالا في متحف متروبوليتان في نيويورك تحت إشراف وإدارة آن وينتور رئيسة تحرير مجلة فوج. ما يميّز الحفل أنه يختار كل عام ثيما معينا للحفلة، وتُباع الطاولات في الحفلة لمصممي الأزياء بمئات الآلاف من الدولارات والتي تذهب أرباحها في النهاية لدعم أبحاث مرض الإيدز. من جهة المصممين فإنهم يحرصون على شراء الطاولات ويدعون لها عددا من النجوم شريطة أن يرتدوا من تصميماتهم الخاصة، فرصة ذهبية للدعاية لتصميماتهم وتأكيد موهبتهم كمصممين خاصة أمام آن وينتور. يتنوّع ثيم الحفل كل عام، وفي أحيان كثيرة تعود بالزمن لأزياء مستوحاة من الفن القوطي، مستوحاة من الدين المسيحي، مستوحاة من أزياء الأميرات في الحكايات، وغيرها من الأفكار غير التقليدية".
هناك تحدٍّ يقع على عاتق النجوم ومصممي الأزياء، والمصورين أيضا. في حديث مع "تشيلسي لورين" عن طبيعة عملها كمصورة سجادة حمراء في أهم المهرجانات السينمائية العالمية تؤكد أنها مهنة يظن الكثيرون أنها باهرة وتحمل قدرا من الرفاهية، لكن الأمر عكس ذلك، يجاهد المصور لكي يأخذ مكانا مميزا على السجادة الحمراء ليلتقط أفضل الصور، وما يحدث أن يتكدّس المصورون حول بعضهم بعضا، الحظ الأمثل لمَن يقف في الصف الأمامي، وهناك عناء يكابده مَن يقف في الصف الثالث الذي عليه أن يلتقط أفضل صور دون أن يُظهر ازدحام المصورين في الصورة، الأمر شاق، ساعات من الوقوف من أجل التقاط صور جيدة لمجموعة معينة من النجوم، وفي الوقت نفسه على المصور أن يدفع الفنانين للابتسام، وأن يعقد صداقات وحوارات جانبية مع المشاهير من أجل التقاط صور مميزة وحصرية للمصوّر[9].
"من الرائع أن نحتفل بالموضة، لكن الأروع أن نحتفل بأعمالنا أيضا، ألّا يتمحور الأمر حول الفستان فحسب"
(نيكول كيدمان)
هناك أشياء أخرى لتسألني عنهابدّلت قوة حملة "Me Too" ملامح السجادة الحمراء قليلا، العام الماضي تسيّد اللون الأسود فساتين الفنانات في حفلة الجولدن جلوب تضامنا مع الحملة، ورغبة في التعبير عن غضبهم في أعقاب قضايا التحرش والاستغلال الجنسي المتهم فيها المنتج هارفي واينستين، ولأول مرة أصبح السؤال المتداول على السجادة الحمراء: "لماذا ترتدي هذا الأسود؟"، وهو ما يعدُّه الكاتب مايكل شولمان "تحوّلا جذريا يُعلي من النبرة السياسية للسجادة الحمراء"[10].
جاء التغير الأكبر في حفل جوائز الأوسكار عام 2015 التي تصدّرها هاشتاغ #AskHerMore مطالبا الصحافيين بتوجيه أسئلة أكثر أهمية للفنانات عدا سؤال "من أين ترتدين هذا؟". قوة الهاشتاغ جعلت الأسئلة على السجادة الحمراء لا تقف عند المرأة باعتبارها عارضة أزياء جاءت لتتباهى بملابسها، لا بأس أن نسألها عن ملابسها وعن أشياء أخرى تتعلق بعملها، بهويتها التي تحملها في هذا الحفل، هي لم تأتِ للتباهي، بل جاءت لتشارك في احتفال كبير باسم الفن السينمائي الذي تعمل فيه وتنتمي له. يمكننا أن نُحدِّث الفنانات عن أمور تشغل العالم كما نتحدّث معهن عن أزيائهن.
النظر إلى الفنانات باعتبارهن عارضات أزياء يُعيدنا إلى التفكير في الجسد، في الدلالات التي يحملها والفضاءات التي تحيطه والمعطيات التي تحكمه. تكشف السجادة الحمراء عن الأجساد الفنية كأنها تعرّيها، نتفحّصهم كأننا نمتلكهم، وكأن أجسادهم تلك تخصّنا. تخضع الأجساد إلى تحليلات ثقافية واجتماعية وإلى تشريحات أنثروبولوجية ندرس فيها سلوكنا ونفكك بها شفرات هويتنا. اختيارات المشاهير للظهور على السجادة الحمراء تخبرنا الكثير عن هويتهم، تعبيراتهم الجسدية وملابسهم هي شكل من أشكال الاتصال غير اللفظي، فالجسد هو الوسيط بين الهوية الذاتية للنجم وبين الهوية الاجتماعية[11].
فلنرفع اللافتات إذنلأن الأنظار تلاحقنا بإمكاننا الآن أن نُعبِّر عن مواقف نؤيدها وقضايا ننتصر لها، هكذا يُفكّر النجوم في الدقائق المعدودة التي يسيرون فيها على السجادة الحمراء، كل الكاميرات تلاحقنا، فلنُعبِّر عن رأينا إذن، فلنخبر العالم ببعض الأمور عبر أجسادنا. تؤكد نورا ناجي في حديثها مع "ميدان" على استغلال بعض الفنانين لأضواء السجادة الحمراء ليسلّطوا الضوء على قضايا معينة تشغلهم: "هناك فنانات كتبن على أجسادهن عبارات دعم للحركات النسائية أو الاجتماعية، وهناك مَن يرتدين ملابس كُتبت عليها عبارات تناهض سياسات أو قضايا بعينها أو تتضامن مع أخرى، وربما أشهر مثال هو ارتداء الأسود في حفل الجولدن جلوب عام 2018". هذا النوع من التعبير عن الرأي يؤيده مصمم الأزياء أندرو جيلويكس ويقول إنه من الرائع أن نرى الأزياء والموضة تتحوّل إلى وسيلة تعبير عن الأيديولوجيا والرؤى السياسية والمجتمعية.
ربما يرى البعض أن السجادة الحمراء محض رفاهية، بدعة وتظاهر بالفخامة لا يجذب إلا فئات معينة من المهتمين بملاحقة الفنانين، لكن دعونا نتفق أن كل مرور على السجادة الحمراء أصبح الآن يحمل معنى، كل مرور يؤكد هوية صاحبه، ويؤكد حضوره بين الجميع. يحتاج النجوم إلى أن يتألّقوا وأن يُحاطوا بالعيون في احتفالية شبه أسطورية، مجرد دقائق معدودة تُعيدهم من جديد إلى الأضواء. كل ابتسامة للكاميرا تحمل هوية، كل صورة تؤكد أن شروقهم حاضر وغروبهم بعيد.
—————————————————–
هامش:
*من السكان الأصليين لجنوب أميركا.