تأثير الإعلام والتكنولوجيا على سلوكيات الحرب في أوكرانيا
يُجمع الخبراء العسكريون على انّ الفضاء الإلكتروني أصبح مجالاً لخوض الحروب، من خلال اختراق الأنظمة الإلكترونية أو تدميرها أو إرسال فيروسات مدمّرة إلى تلك الأنظمة. ففيروس «ستوكسنت» الذي ضرب البرنامج النووي الإيراني عام 2010، قال عنه الخبير الألماني الالكتروني رالف لانجر، إنّه «أعاد البرنامج النووي الإيراني سنتين إلى الوراء». وبالتالي، تطورت أدوات الحرب مع الثورات الصناعية والعسكرية والشعبية والتكنولوجية، لتصبح الحروب الالكترونية والإعلامية أكثر خطراً على أمن الدول واستقرارها من الحروب التقليدية، بفعل الارتباط الوثيق بين التكنولوجيا والإعلام والاتصالات الحديثة.
لا شك أنّ الثورة التي حصلت وتستمر على مستوى التكنولوجيا يشكّل استخدامها بطريقة ملتوية خطورة على الأمن والسلم الدوليين، بموازاة تماهي الإعلام ودوره مع التطور التكنولوجي بفعل الارتباط البنيوي معه.
وللإعلام دور مهمّ في صناعة ثقافة الخوف للتحكّم بسلوكيات معينة. والأساليب التي تلجأ إليها المؤسسة الإعلامية في نشر الخوف، كثيرة ومتنوعة، وأهمها: الحذف، التشويه، المبالغة، التضليل، والاستخدام المكثف للصور المتقابلة لأطراف الصراع. وتشير دراسات، إلى انّ تلك الأساليب تجلّت بوضوح في تغطية المؤسسات الإعلامية الغربية، وخصوصاً شبكة الـCNN لأخبار حرب الخليج الثالثة عام 2003.
في الحرب الروسية على أوكرانيا، نرى حرباً نفسية الكترونية على مستوى عالٍ، يقوم بها عمالقة التكنولوجيا والإعلام، في محاولة لضبط مسار الحرب باتجاه محدّد. فكمّ من القصص انتشرت على منصّات التواصل الاجتماعي في أوكرانيا، في استخدام منحى دعائي لرفع المعنويات، ألهبت حماس الأوكرانيين، وجعلتهم يستميتون في الدفاع عن بلادهم.
على سبيل المثال، ضجّت منصّات التواصل في أوكرانيا بقصة «شبح كييف»، الطيار الذي يقود مقاتلة، واستطاع أن يُسقط 6 طائرات حربية روسية في سماء أوكرانيا خلال 24 ساعة فقط.
وانتشرت فيديوهات دعائية لشدّ العصب الأوكراني، منها، فيديو لمواطنين أوكران عزّل يواجهون قوافل عسكرية من دون خوف. وفيديو النائبة الأوكرانية كيرا روديك، يُظهرها تحمل السلاح وتؤكّد استعدادها للانضمام إلى صفوف المقاتلين لحماية بلادها من الاجتياح الروسي. إضافة الى انتشار صور ملكة جمال أوكرانيا السابقة انستاسيا لينا تحمل السلاح.
إلى قصة المهندس العسكري فيتالي سكاكون، الذي فجّر جسراً حيوياً في هينيتشيسك؛ لإيقاف تقدّم القوات الروسية.
من دون ان ننسى الرئيس الأوكراني فوليديمير زيلنسكي، الذي يطلّ باستمرار على شعبه عبر مواقع التواصل، داحضاً كل الأخبار عن رحيله. ما شكّل دفعاً كبيراً لمعنويات العسكر والمواطنين في كييف.
في المقابل، رأينا اعتراض موسكو على عمالقة التكنولوجيا، فاتهمت على سبيل المثال شركتي «غوغل» و»ميتا» الأميركيتين، بالتحريض على الحرب ضدّ روسيا. كما اتهمت شركة «تويتر» بأنّها تقاعست عن حذف منشورات زائفة تتعلق بالعملية العسكرية الروسية على أوكرانيا. إضافة إلى نشر معلومات مضلّلة عن ضحايا القوات الروسية ومدنيين أوكران.
هي حرب ميدانية، أسلحتها ليست تقليدية فقط، بل دعائية وإعلامية وإلكترونية، يهدف منها المتحاربون وداعموهم، خلق حالة نفسية متردّية لدى الطرف الآخر.
من هذا المنطلق، تُعتبر الحرب السيبرانية أسوأ من الحروب التقليدية. إذ أنّ هذه الحروب لا قوانين لها وهدفها التخريب والسرقة. وتخصّص الدول الكبرى مبالغ طائلة لتدريب جيشها من «الهاكرز»، وتدفع الكثير لإنشاء الاسلحة الالكترونية. ومن أبرز هذه الجيوش الصين، روسيا، اميركا، ايران، وغيرها.
واليوم، مع ارتفاع حدّة الحرب في أوكرانيا، انقسمت مجموعات «الهاكرز» بين مؤيّدة للحرب وغير مؤيّدة لها. وبذلك تكون الحرب السيبرانية كحرب العصابات، مستخدمة الأسلحة الالكترونية الفتّاكة المتمثلة بالفيروسات الإلكترونية التي تنتقل من جهاز الى آخر، وفق تأكيد مهندس الأمن السيبراني لدى شركة TEKNOLOGIIA محمد قصب.
ويوضح قصاب لـ»الجمهورية»، أنّ الحرب الالكترونية لها ارتباط مباشر ووثيق بالإعلام، الذي بدأت تظهر تأثيراته الكبيرة منذ الحرب العالمية الأولى.
قصّاب: الحرب اليوم هي نفسية، فمن يملك معنويات أكبر يصمد أكثر
ومع تطور التكنولوجيا، فإنّ عمالقة هذه التكنولوجيا يحجزون دوراً أساسياً لهم في اللعبة، لتحويل الحرب العسكرية إلى حرب معلوماتية، تؤدي بدورها إلى حرب نفسية، تؤثر دراماتيكياً على الحرب التقليدية، فتُبث أخبار مغلوطة ومفبركة تمسّ بمعنويات الجنود، وتنحو بمسار المعركة. وهذا ما يُترجم امتناع شركات مثل «غوغل» و»تويتر» عن حذف أي كلام على منصّتها، وتركها الساحة مفتوحة، ليعبّر الجميع عن رأيهم، أكان مع أو ضدّ هذه الحرب.
ويتجلّى أوج الدعم التكنولوجي والمعلوماتي لأوكرانيا، بدخول الملياردير الأميركي إيلون ماسك على خط اللعبة، إذ فعّل خدمة الإنترنت الفضائي، أي عبر القمر الصناعي «ستار لينك»، تحسّباً لانقطاع الانترنت الموجود في أوكرانيا، لتستمر عملية الاتصال بشبكة الانترنت. «فيسبوك» بدوره، قدّم خدمة Lock للأوكرانيين، يستطيعون عبرها إقفال حساباتهم بشكل لا يستطيع أي كان الدخول إليها وسرقة معلوماتهم.
من هنا، يشدّد قصاب على انّ الحرب قائمة على المعلومات. وبقدر ما تملك معلومات بقدر ما تملك رأسمالاً كبيراً.
ويلفت الى انّ موسكو نفّذت خلال فترة حشد القوات العسكرية على حدود أوكرانيا هجمات سيبرانية على مواقع حكومية أوكرانية. وفي اليوم الأول لدخولها أوكرانيا، نشرت فيروس Wipe لمحو الداتا الموجودة في مؤسسات الدولة الرسمية. في محاولة لإسقاط كيان الدولة. فتمّ استدراك الوضع والمحافظة على جزء معين، لكن المعلومات تقول إنّ العديد من الداتا التابعة للمصارف قد تمّ محوها.
ويشير إلى أنّ الهجمات الالكترونية الروسية هي الأخطر من حيث المبدأ، لأنّ هدفها التخريب وليس السرقة. إذ ضربت روسيا العديد من المصارف والعديد من المواقع الالكترونية التابعة للدولة، وشركة الكهرباء وغيرها من المواقع الحساسة. وهذه الهجمات تؤثر سلباً على مجرى أحداث الحرب ميدانياً، والقدرة على استخدام حملات التضليل والاستفزازات التي تهدف إلى زعزعة استقرار البلاد وإضعافها.
من ناحية ثانية، فإنّ انقطاع التيار الكهربائي سيسبّب الموت لعدد من المرضى، ومن هنا يمكن ان نستنتج بأنّ الحرب السيبرانية يمكنها قتل الأرواح.
هذا التخريب يواجه إلكترونياً أيضاً لكن بطريقة مضبوطة. إذ أنّ دخول الولايات المتحدة الأميركية على خط الحرب السيبرانية قد يؤثر ايضاً سلباً على واشنطن بالذات. فبحسب قصاب، يمكن لأميركا تنفيذ هجمات إلكترونية متقدّمة تعطّل قدرة روسيا على مواصلة عملياتها العسكرية، وتشمل تعطيل الإنترنت في جميع أنحاء روسيا، وإيقاف الشبكة الكهربائية، والعبث بمفاتيح السكك الحديد. لكنّه يذكّر بقول أحد المسؤولين الأميركيين رفيعي المستوى: «أي شيء يمكننا القيام به لروسيا، يمكنهم أن يفعلوه بنا».
من هنا، ليست الحروب بأشكالها التقليدية المتعددة، سواء كانت عسكرية أو اقتصادية فقط ما يهدّد العالم؛ بل هناك حروب جديدة ربما تكون أخطر وأكثر ضرراً بالمعنى السياسي والأمني والاقتصادي، وهي الحروب السيبرانية التي أضحت تهديداً ومصدراً للقلق يواجه العالم كلّه من دون استثناء.
حتى الآن، تعرّض العالم لهجمات سيبرانية قوية أحدثت خسائر مالية تخطّت المليارات؛ ولعلّ أبرزها وأشهرها هجوم برامج الفدية عام 2017، واستهدف 150 بلداً وعطّل أكثر من 200 ألف جهاز كمبيوتر وبلغت الخسائر7 مليارات دولار.
استهداف قطاع الطاقة في العام 2012 من خلال زعزعة استقرار أنظمة الطاقة في شركة «أرامكو» السعودية، واستهداف 30 ألف محطة عمل تابعة للشركة، واستهداف شركة رأس غاز القطرية من خلال فيروس، أدّى الى تعطّل النظام التشغيلي.
المنشآت النووية الإيرانية لم تنج أيضاً من الاستهداف السيبراني، إذ إنّ العديد من الهجمات طالت منشآتها النووية، أبرزها مفاعل «نطنز» وكذلك محطات تخصيب اليورانيوم ومحطات الطاقة الكهربائية. مع الإشارة الى انّ الهجمات السيبرانية هي العنوان الظاهر والأساس في المعركة بين تل ابيب وطهران.
وفي ظلّ غياب أي جهة عالمية قادرة على منع الهجمات السيبرانية، يؤكّد قصاب أنّ «الحرب اليوم هي نفسية، فمن يملك معنويات أكبر يصمد أكثر».
مؤسس شركة «إينغما» والباحث في الشؤون الاستراتيجية رياض قهوجي، يقول لـ»الجمهورية»: «إنّه لطالما كان لوسائل الاعلام دور مؤثر ومهم في الحروب تقليدياً في ما يُعرف بـ»البروباغندا». وهي تغذي الرواية التي يسوّقها كل طرف في قضية معينة أو حرب معينة، بهدف رفع معنويات عناصره عبر ضرب معنويات الطرف الآخر وتشويه صورته وشيطنته.
ويضيف: «تأثير الإعلام اليوم مضاعف، إذ أصبح أسهل واسرع انتشاراً. لأنّ التسويق لقضية معينة لم يعد يقتصر على الوسائل التقليدية فقط، بل عبر وسائل التواصل الاجتماعي، اذ في غضون ثوانٍ قليلة يصبح الخبر بمتناول الملايين حول العالم وبالصوت والصورة، وهذا ما يزيد من مستوى ردّة الفعل العاطفية للمواطنين. ومثال على ذلك، الفيديوهات التي نشرها الرئيس زيلينسكي حول بقائه وصموده في كييف، إضافة إلى استهداف الدبابات الروسية بالمولوتوف وقتل العسكريين الروس، ما أدّى ليس فقط الى شدّ عصب الشعب الأوكراني وصموده، بل كان له تأثيره في أوروبا، دفع بالقادة الأوروبيين الذين كانوا متردّدين في دعم أوكرانيا وإرسال مساعدات عسكرية او حتى فرض عقوبات على مستوى «سويفت» ضدّ روسيا، الى تغيير مواقفهم، فانقلبت الأمور رأساً على عقب. خصوصاً لدى المجتمعات الليبرالية التي للرأي العام فيها تأثير مضاعف. وكانت النتيجة أننا شهدنا انقلاباً كبيراً في مواقف تخصّ العقوبات وإرسال الأسلحة. كما انّ الإعلام ودوره، أخرج سويسرا عن حيادها التقليدي».
قهوجي: الإعلام وصمود الأوكران كان لهما تأثيرهما في أوروبا وقَلَبا مواقف القادة الأوروبيين رأساً على عقب
إذاً، انسجام بنيوي وحيوي بين الإعلام وعمالقة التكنولوجيا في الحرب الروسية- الأوكرانية، يؤدي دوراً كبيراً في دعم قوة المقاومة وقوة الإرادة بالصمود من جهة، وتأثير هذه الإرادة على قرارات الدول والرأي العام من جهة أخرى.
ويرى قهوجي، أنّ الإعلام يلعب دوراً في تغيير موازين القوة على الأرض. بمعنى، ان يمتلك فريق قدرات عسكرية كبيرة من دون إرداة ومعنويات عالية، أمر يجعله معرّضاً للخسارة مقابل فريق آخر ضعيف الإمكانات العسكرية، فيما هو يحوز المعنويات العالية والإرادة الصلبة، والتي يمكن ان تبدّل في نتائج الحرب.
ومع تشديد الحصار على كييف، يأمل كثيرون ان تعطي الحرب البديلة عن الميدان مفاعيلها، أكانت الحرب السيبرانية أو الحرب الاقتصادية المتمثلة بالعقوبات على موسكو. علماً أنّ مصير كييف لا يزال ضبابياً، وقدرة الروس على محاصرتها ودكّها بالقذائف لا تعني القدرة على إسقاطها. ومثال على ذلك سراييغو، فهي لم تسقط رغم الحصار الطويل والقصف الشديد، بفعل إرادة الحرب ومعنويات مواطنيها العالية جداً. وهو سيناريو قد نشهده في كييف. فالنسبة بحسب قهوجي بين سقوط كييف وصمودها متساوية، أي 50%، وهي نسبة مقبولة في الحروب.