حروب الكاره والمكروه العقوبات النفطية ضد بوتين ومضاعفاتها
أطلقت روسيا على اجتياحها العسكري الجاري لأوكرانيا اسم العملية العسكرية الخاصة، فيما ترددت في البيانات الأممية وتصريحات ساسة الدول خلال الأيام العشرة الفائتة تسميات مختلفة بوصفه بالعمل العدائي أو بالغزو أو العدوان. وفي واقع الأمر، فإن ما يحدث هو حرب، بل وحرب كونية أيضاً.
فإن لم يكن ما تنقله وسائل الاعلام العالمية من صور للدمار الذي لحق بالتجمعات السكنية والمدارس والمشافي والمراكز التاريخية وكافة البنى التحتية، مضاف إليها التدمير الكارثي الجديد للبيئة المنكوبة في الأساس. وهي صور يراها العالم في حدود ما يسمح للإعلام بنقله، تمثل غيضاً من فيض، يمكن تصور هوله على الأرض باسترجاع بسيط لذاكرة الحروب وآثارها.
وإن لم تكن الأرقام المعلنة بين الجانبين عن الأعداد الكبيرة للضحايا والجرحى خلال أيام قليلة فقط، ومتابعة تنامي الكارثة الإنسانية المتمثلة بطوابير المدنيين الفارين في ظل ظروف جوية شديد القسوة، المتوقع أن تصل أعدادهم بين 3-5 مليون نازح ولاجئ ومشرد، وكل ما يتداوله الاعلام العالمي عن توقعات سوداوية بأن أوكرانيا لم تر الأسوأ بعد.
إن لم يكن تسمية كل ما تقدم بوصفه حرباً، فما هي الحرب إذاً؟.
بل هي حرب كونية، تتواجه فيها الآلة العسكرية بالحرب السياسية والاقتصادية والتكنولوجية العابرة للقارات، تتداخل فيها الثقافات والجغرافيا والتاريخ، والأيديولوجيات والقيم والمفاهيم. تغطي بشموليتها جميع دول العالم وتخضعها لاختبارات سياسية وأخلاقية حادة. تضع الجميع على "كف عفريت" وفي أعلى جاهزية أمنية ودفاعية وعسكرية ووجودية، وتثير حراكاً أممياً سياسياً ودبلوماسياً وقانونياُ قد يسفر عن سقوط تحالفات وبروز تحالفات جديدة.
حرب كونية مغايرة قد تؤسس لشكل حروب المستقبل وآليات الدفاع الأممية غير العسكرية الفتاكة. لا تستثني أحداً بآثارها السلبية السريعة سواء كانوا معنيين بها أو غير معنيين أو بعيدين عنها آلاف الأميال، وتجبر الجميع على تسديد فاتورتها الباهظة، من استقرارهم ودوائهم وقوتهم الذي يزداد مذاقه قهراً دون هوادة.
لتبرير حربها هذه، ساق الخطاب الرسمي الروسي العديد من الأسباب المعلنة وكررها عشرات المرات. فيما أضاف مؤخراً سبباً جديداً جاء على لسان وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف الذي حرص على حضوره الفيزيائي لاجتماعات مجلس حقوق الانسان الأممي في الأول من مارس الجاري، بتوقفه عند تعبير "الكراهية" حين قال إن "الكراهية الأوربية تجاه الاتحاد الروسي هي الدافع وراء مدّ الاتحاد الأوروبي لأوكرانيا بالأسلحة".
الأمر الذي يعني أن العالم عليه أن يصدق، إضافة إلى كل المبررات السابقة، ادعاء هذه المظلومية التي تسبب بها الاعتقاد بوجود كراهية، وأن يتعاطف مع هذه المظلومية ويبرر لصاحبها سلوكه الاستباقي لتأديب الكاره وكل من يرتبط به، ومحاسبتهم على نواياهم، واستئصال الكراهية المضمرة لديهم، بل وإبادتهم إن أمكن!!
في حين يفترض المنطق أن الدول الكبرى التي تثق بذاتها لا ترسم سياساتها واستراتيجياتها انطلاقاً من مشاعر الحب أو الكراهية اتجاهها. وإن فعلت، فهي لا تحاسب الآخرين على مشاعرهم، بل تفتش عن الأسباب التي أدت إلى كراهية الآخرين لها في ذاتها، فقد تكتشف أنها المسبب الذي يغذي مثل هذه المشاعر لدى الآخرين بسبب سلوكياتها اتجاههم أو اتجاه غيرهم.
كما يفترض منطق الدول أيضاً أن مثل هذه المشاعر تعالج بالتثبت منها أولاً، وعبر الحوار مع الآخر والشفافية وإجراءات الثقة والاحترام والتفاهمات المتبادلة فيما بينهما، لا بالقوة أو بالحروب، ولا بالضغائن وتكريس المزيد من الأضرار والحساسيات.
وهو مطبٌ مزدوج يقع به العالم والنظام الروسي معاً، فبدلاً أن تعالج روسيا أسباب الكراهية التي تدّعيها ضدها، فاقمتها بالحرب، وزادت من رقعة اتساعها لتشمل معظم دول العالم وشعوبها، والخاسر الأكبر من هذه الكراهية، دائماً وأبداً، هو الشعب الروسي.
وهو الشق الثاني من المطب الذي وقع به العالم الغربي بدوره، إذ أنه وبدلاً من أن يجرب استقطاب الشعب الروسي الرافض بأغلبيته لحرب بلاده على أوكرانيا-كما بدا في تظاهرات الأيام الأولى- توجه له بحزم من العقوبات غير المنطقية التي طالت تاريخه وثقافته العريقة.
وهي عقوبات ترقى إلى مستوى الأذية المعنوية الجارحة، والتي قد تقلب مشاعره الكارهة للحرب، وتحرض كراهيته للعالم أجمع. كمثل القرار الذي أصدرته جامعة بيكوكا الايطالية حول إلغاء أحد مناهجها الدراسية عن عملاق الأدب الروسي دوستويفسكي قبل تراجعها لاحقاً عن هذا القرار.
وكمثل الاجراءات التي اتخذتها أكاديمية الفيلم الأوربي بمقاطعة الفنانين الروس، الأمر الذي دفع بالمخرج الأوكراني سيرجي لوزنيتسا لتقديم استقالته من الأكاديمية بعد أن قال إن "كل المخرجين الروس الذين أعرفهم هم ضد الحرب، وهم ضحايا مثل الأوكرانيين في هذه الحرب المجنونة".
إنها حقاً حرب مجنونة كمثل كل الحروب، لكنها ستنتهي في موعد ما، وإلى حينه، ستراكم كما سابقاتها مزيداً من الكراهيات المتبادلة التي تتناقل وتورث من جيل إلى جيل ويصعب زوالها بسهولة، وفي الذاكرة عشرات الأمثلة لحروب عشناها في هذه المنطقة، كانت الكراهية الأداة الحادة الأكثر فتكاً فيها، حيث إنها شعور غير قابل للاختزال، غالباً ما يؤدي إلى تدمير الكاره والمكروه معاً، بحسب اعتقاد "ديفيد هيوم" الفيلسوف والمؤرخ الأسكتلندي.