من خلال الفن المعاصر.. جامعة لندن تستعرض حضارة العراق
أقام معرض بروناي -التابع لكلية الدراسات الشرقية والأفريقية "سواس" بجامعة لندن- مشروع البحث البصري التعاوني لاستكشاف ماضي العراق في بلاد ما بين النهرين، من خلال الفن المعاصر، بالتعاون مع مجموعة من الفنانين العراقيين.
المعرض -الذي انطلق في 18 يناير/كانون الثاني الماضي ويستمر حتى 19 مارس/آذار الجاري- يسلط الضوء على 4 مواقع أثرية هي أور، بابل، نيبور (نفّر)، نمرود، والتي أصبحت مهجورة خلال الحروب والصراعات الأخيرة بالعراق، حيث يسعى المشروع لاستكشاف قدرة مشاريع الفن التعاوني المعاصرة التي أجريت في هذه المواقع الأثرية الرئيسية من أجل تنشيط هذه المواقع واستكشاف جمالها.
مشروع طويل الأمد
وتقول الفنانة التشكيلية هناء مال الله، والتي تدير المعرض، إن هذا النوع من المعارض جزء صغير من مشروع كبير وطويل الأمد بدأ منذ عام 2016.
وتضيف للجزيرة نت بأن مشروعها الشخصي بدأ بتصوير "زقورة أور" من الأعلى بواسطة طائرة مسيرة (درون) وقد ساعدتها زميلتها الفنانة ريا عبد الرضا بإنجازه داخل أور وقامت بتنفيذ الفكرة، ثم تطور المشروع وبات يضم نحو 13 مشاركا بين باحثين وفنانين.
وتؤكد مال الله بأن فعاليات المعرض متواصلة، ولديهم في السابع من الشهر الجاري ورشة عمل تتضمن رحلة من المعرض إلى المتحف البريطاني القريب، ومن ثم العودة من أجل لفت الأنظار إلى المعروضات التي تركز على المواقع الأثرية والمناظر الطبيعية، وعلى إرث وادي الرافدين والتي نقلت الكثير من آثاره إلى المتاحف العالمية.
وعن الدعم، تبين أنهم لم يحصلوا على أي دعم من الحكومة، لكنهم حصلوا على دعم مالي بسيط من بعض الجامعات الأجنبية، وبقية التكاليف كانت على نفقتها الشخصية لرغبتها في إنجاح المشروع.
ووصفت مال الله عرض مشروعها داخل جامعة مرموقة في لندن بأنه يؤكد النجاح، ويعطي المشروع من الشرعية والدعم لأخذ الخطوات الأخرى كونه مشروعا طويل الأمد.
الآثار تستغيث
من جانبها، تقول الفنانة فاطمة جودت، وهي إحدى المشاركات، إن من أهم الأسباب التي جعلتها تشارك في هذا المعرض هو إيصال صوت مدينة "نفّر" المدينة الأثرية القديمة للعالم أجمع، ذلك الصرح العريق الذي يستغيث بسبب الإهمال المستمر.
وتضيف للجزيرة نت: المشكلة الأكبر عندما كنا نذهب إلى هذه المنطقة تحديدا، ونقوم بتصوير الأعمال كل مرة نذهب، ونلاحظ أن هناك بعض الأجزاء من هذه الآثار تتهدم سواء كانت برياح قوية أو أمطار غزيرة "وهذا الشيء محزن".
وتبين جودت أن مشاركتها بالمعرض -الذي أقيم في لندن بقيادة الفنانة مال الله- ركزت على الآثار واندثارها في بعض المناطق الموجودة بالعراق من ضمنها آثار نفّر، منوهة إلى أنهم يريدون إيصال رسالة بأن هناك آثارا موجودة بهذه المنطقة لم تكتشف بعد أو تم إهمالها، فقاموا بتقديم عدة صور فنية أدائية، لإيصال هذه الرسالة.
الإنسان السومري
وتقول الفنانة التشكيلية ريا عبد الرضا إنها شاركت بأعمال عديدة في هذا العرض، منها عمل خاص وأعمالمع الدكتورة مال الله، وطبيعة هذه الأعمال تخص الموقع الأثري أور، لافتة إلى أن العمل بالإضافة لكونه فنيا فهو أيضا استكشافي خاص من وجهة نظر الفنان نفسه، والغرض منه التقرب لاكتشاف طبيعة ومادة الإنسان السومري القديم وعلاقته بالإنسان الآن، كما أنه يجسد طبيعة الحياة والبيئة قديما وحاليا.
وتبين للجزيرة نت بأن أهمية المعرض من أهمية الموضوع، فالعمل لا يقتصر على الجانب الفني فقط وإنما هو استكشافي يحاكي طبيعة ووجهة نظر الإنسان سواء كان الفنان أو المتلقي، وكيفية صنع وجهات نظر استكشافية عما يحتويه الموقع الأثري وعلاقة الماضي بالحاضر، ضمن وجهات نظر للفنان، وترجمتها بشكل فني على جدار أو عرض فديوي أو صورة.
ووصفت هذه الفنانة انطباع الزوار بـ "العظيم" لكون العرض مميزا ومختلفا، واستخدمت فيه تقنيات عدة وتكنولوجيا صورية حديثة، حيث إن الجميع يعرف أن الفن أفضل وسيلة لنقل رسالة ما خصوصا إذا ارتبط بالحضارة والإنسان.
التعبير بفنون الأداء
بدوره يقول الرسام والفنان محمد عبد الوصي إنه شارك في المعرض من خلال فن الأداء، ويضيف "كان العرض بجانب أسد بابل، ووضعت فوق رأسي قبعات مختلفة وكان على رأسها قبعة للجيش تمثل اللحظة الأولى لوصول الجيش البريطاني إلى بابل عام 1917".
وخلال حديثه للجزيرة نت بين أن الإشارة من خلال الجسد، والتعبير بواسطة فنون الأداء، رسالة أبلغ من أي تعبير آخر، لذلك كان الجنود حين وصولهم يلوح أحدهم بقبعته إلى الكاميرا.
ويضيف عبد الوصي: ربما كانت خطوة أولى للبيان وارتباطها أيضا بدخول الجيش الأميركي والاستيطان لسنوات داخل أرض بابل الأثرية، كل هذه الأحداث، وإضافة إلى علاقة المدينة بالثقافة الشعبية للقرى المجاورة، دفعته للتفكير بأن هنالك خطابا يمكن التعبير عنه من خلال فن الأداء عن المدينة وأهميتها.
أهمية المدن الأثرية
وتلفت الأكاديمية والباحثة بالتراث الدكتورة فاطمة عباس المعموري إلى أن إقامة مثل هذه المعارض -حتى وإن كانت تجنى ثمارها ماديا من الجهات المنظمة- لكنها تعتبر تعريفا وتوعية مجانية لحضارة بلاد الرافدين، كونها تحمل هوية هذه البلاد. ومهما أعطت من قيم حضارية واكتسبت من قبول شعبي، فإن انعكاسها سيكون لصالح حضارة بلاد الرافدين، والتعريف والتمجيد بعظمتها التي تفرض نفسها بحكم أصالتها.
وتضيف للجزيرة نت بأن المدن -التي يتم التركيز على آثارها والإشادة بها- تنبع من العمق التاريخي لهذه المدن وأثرها الفعال في وجود حضارة بلاد الرافدين، حيث يعود تاريخ مدينة أور الأثرية إلى الألفية الرابعة قبل الميلاد جنوب العراق على بعد 225 كيلومترا جنوب شرق بابل غرب مجرى نهر الفرات.
وفيما يخص نيبور "نفر" تبين المعموري أن هذه المدينة لها أهميتها الخاصة والمميزة في تاريخ بلاد الرافدين، وتعود بتاريخها إلى الألف السادس قبل الميلاد، وكونها تعد عاصمة السومريين الدينية ومركز عبادة الآلهة (إنليل) آلهة الهواء حسب معتقدات سكان بلاد الرافدين الدينية وأحد أضلاع "الثالوث الإلهي" السومري.
أما مدينة بابل الأثرية، فتعتبر هوية بلاد الرافدين عند الغرب، كونها بقيت 15 قرنا من الزمان عاصمة العالم الإنساني والحضاري، ومن المدن الموغلة أيضا في القدم، ويعود تاريخها إلى الألف الثالث قبل الميلاد، بحسب المعموري.
وتتابع بأن مدينة نمرود (بمحافظة نينوى شمالي العراق) تعود إلى القرن الـ 13 قبل الميلاد، وتقع عند ضفاف نهر دجلة على مسافة 30 كيلومترا إلى الجنوب من الموصل، وهي عاصمة أقوى الشعوب والأقوام التي حكمت على سطح بلاد الرافدين، وهم الأقوام الآشوريون المعروفون بقوتهم وشراسة ملوكهم وعظمة فتوحاتهم، وقد ارتبط اسم هذه المدينة باسم مؤسسها الملك شلمنصر الأول.
وتكشف المعموري عن العديد من الكنوز الأثرية التي وصلت تلك الدول عن طريق بعثات التنقيب في مطلع القرن الماضي وكذلك عن طريق المهربين وشراؤها منهم، في محاولة لاستثمار آثار هذه المدن العظيمة في تاريخها وأصالتها وجعلها موردا اقتصاديا وثقافيا لهم، لكنها تبقى تحمل السمات وأصالة بلاد الرافدين العريقة التي لا يمكن لهم يوما الادعاء بأنها تعود إليهم، ويبقون مستثمرين لها ومروجين لعظمتها.